«زجر الاعتداء على الأمنيين» أمام مجلس نواب الشعب الكثير من النقاش والجدل .فاعتبرها الكثيرون مظهرا من مظاهر أزمة مؤسسات الدولة وعدم قدرتها على الوقوف والتصدي للرفض المتزايد لسلطة الدولة وشرعيتها.وطالب هؤلاء مؤسسات الدولة وخاصة جهازها الأمني بالوقوف والتصدي لهذا الرفض وبسط وفرض السلطة الشرعية للدولة على المجتمع .
بينما رأى آخرون وخاصة من الشباب والحركات الاجتماعية هذه الاحتجاجات وخاصة العنف الذي صاحبها من قبل الأمنيين محاولة للعودة إلى النظام الاستبدادي والتفافا على هامش الحرية الذي فتحته الثورة .واعتبر هؤلاء أن هذه الاحتجاجات الشبابية والتحدي وحتى الاستفزازات التي صاحبتها تعبيرة شرعية عن عجز الدولة وسياستها على تحقيق مطالب الثورة في الحرية والكرامة والعدالة .
وهذا الاختلاف - وفي بعض الأحيان التناقض - في الآراء وفي فهم وقراءة وتحليل هذه التحركات الشبابية هو أحد مظاهر الأزمات التي نعيشها والتحديات التي تعرفها مسيرة التحول الديمقراطي التي فتحتها الثورة .
وفي رأيي فإن هذه التحركات الشبابية في حدتها وفي بعض الأحيان في عنفها تعبيرة عن القطيعة المتزايدة يوما بعد يوم بين آمال وأحلام الشباب الضائعة والسياسات والأولويات التي تواصل أجهزة الدولة في تطبيقها وكأن شيئا لم يكن.
ولا نسعى في هذا المقال إلى النفخ في النار التي تشعلها هذه التحركات الشبابية ومخزون العنف الذي تحمله بقدر ما ندعو إلى التفكير في الأسباب العميقة التي توجهها لمحاولة إيجاد الحلول لها لإيقاف أجيجها وفتح باب الأمل أمام الشباب الثائر وبناء السياسات للإجابة عن اللوعة التي يعيشها.فالاستقرار الذي ننشده والذي تعمل مؤسسات الدولة على بنائه يمر عبر استماع متأن وإصغاء عميق لأسباب هذه الثورات وهذا الغليان الذي يحمله الشباب المهمش .
وما جد أمام مجلس نواب الشعب في الأيام الأخيرة ليس فعلا عارضا أو مفاجئا بل هو امتداد لجملة من مظاهر التحدي الشبابي لسلطة الدولة ورفضها.ويمكن أن نشير إلى بعض المظاهر لهذا الرفض في السنوات الأخيرة .
فيمكن لنا أن نذكر حملة «تعلم عوم» والتي انطلقت إثر مظاهر العنف التي صاحبت إحدى مقابلات كرة القدم فريق النادي الإفريقي بين الالتراس وقوات الأمن وانتهت بغرق أحد محبي الفريق .
وكانت هذه الحادثة نقطة انطلاق لحملة رفض وتحد للدولة من طرف أعداد كبيرة من الشباب والتي اعتبرت أن عنف قوات الأمن كان الرد الوحيد للدولة على الأحلام المقبورة وعلى انسداد الأفق .
وقبل هذه الحملة عرفت بلادنا حملة شبابية أخرى وهي حملة «مانيش مسامح» والتي انطلقت اثر قرار الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي بإقرار عفو على جملة المتورطين في قضايا النظام السابق ومن ضمنهم الإداريون ورجال الأعمال . وانطلقت هذه الحملة مما اعتبرته الحركات الشبابية «سياسة المكيالين» .ففي الوقت التي عجزت فيه الدولة عن تحقيق مطالبهم وفتح آفاق جديدة لهم فإنها لا تتورع عن السخاء لرجال النظام السابق وحمايتهم .
والى جانب هذه الحركات الشبابية حول قضايا عامة يمكن أن نشير إلى عديد الاحتجاجات الأخرى التي مست عديد الجهات ومن ضمنها تحركات الحوض المنجمي والكامور وعديد التحركات الهامة والتي وثقتها وتابعتها منشورات المنتدى التونسي للحقوق والاقتصادية والاجتماعية .
هذه التحركات والاحتجاجات ليست وليدة اللحظة بل تنخرط في سيرورة تاريخية انطلقت منذ بداية الألفية .وبدأت هذه التحركات تعبر عن قطيعة وهوة سحيقة بين سياسات الدولة وآمال وأحلام قطاعات واسعة من الشباب . ولئن حاولت الدولة في بعض المرات تنظيم حوارات مع الشباب فلقد غلب القمع والعنف الرمزي على سياسات الدولة في التعاطي مع
الإخفاقات والعجز.هذه السياسات دفعت هذه القطاعات الواسعة من الشباب نحو التهميش لتجعل منه نقطة انطلاق لمواجهة واسعة مع الدولة ومؤسساتها .وجاء رد الدولة سريعا وبمزيد من الحزم والعنف والقمع .
هذه السياسات وضعت الحركات الشبابية وجها لوجه مع الجهاز الأمني لتنسحب المواجهة من مؤسسات الدولة وتجعل من الشارع والفضاءات المفتوحة الأخرى كملاعب كرة القدم والمسارح ميدانا للكرّ والفرّ بين البوليس والشباب .وهذه المواجهات المباشرة وخروج السياسي ستزيد من مخزون العنف وحدة التحدي بين القوات الأمنية من جهة والحركات الشبابية والاحتجاجية بشكل عام .
وقد قامت عديد البحوث في ميدان العلوم الاجتماعية بدراسة هذه الظاهرة وتزايد العنف في الفضاء ليصبح لغة الحوار الوحيدة بين مؤسسات الدولة والحركات الاجتماعية .
ومن ضمن هذه الدراسات أريد الإشارة إلى كراس خاص للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحت عنوان «سوسيولوجيا الفعل الجماعي في تونس منذ 14 جانفي 2011» والذي خصص جزءا مهما منه لهذه القطيعة وهذا الرفض .
وقد أشارت جملة هذه الدراسات إلى مظاهر عديدة من هذه الاحتجاجات عند مغني الراب وفي ملاعب كرة القدم عند الالتراس لكل الفرق الكبرى وعديد الحركات الاحتجاجات الأخرى .
في أسباب القطيعة
ولعل السؤال الهام الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو فهم الأسباب العميقة لهذه القطيعة وهذه الهوة بين مؤسسات الدولة والحركات الشبابية والتي تمترست بالهامش أمام رفض الأولى لقاءها.ويمكن أن نشير في هذا المجال إلى سببين أساسين .
السبب الأول يعود إلى رؤية النخب الحداثية للدولة .فلقد اعتبرت هذه النخب على مر السنين هي حاملة التغيير الاجتماعي ودافعة المجتمعات نحو التقدم والرقي .فالدولة في هذه السردية حاملة الحقيقة المطلقة والقادرة على ضبط مشاريع الرقي والساهرة على مضي المجتمعات نحو العالم الأفضل .
وتشكل مؤسسات الدولة في هذه الرؤيا الحداثية الإطار الذي ينظم حركة المجتمعات نحو الأفضل وحتى سعادة الفرد والمجتمعات عند البعض .
وفي هذا الإطار لا ترى الرؤيا الحداثية من ضرورة للانفتاح على الخارج أو الهامش لا بسبب رفض هذه الشرائح بل لقناعتها أن الدولة ومؤسساتها قادرة على التفكير في مستقبلها أكثر منها وضبط السياسات الملائمة للخروج بها من أوضاعها المتردية.
ونجحت هذه السردية الحداثية في الهيمنة على المجال السياسي والاجتماعي طالما أن برامج وسياسات الدول نجحت في تحديث المجتمعات وتحسين عيش المجتمعات .
إلا أن هذه السردية أصابها الوهن مع تواتر الأزمات وتنامي عجز الدولة على مواصلة مشروعها التحديثي.
أما السبب الثاني وراء تنامي هذه القطيعة فيعود في رأيي إلى تآكل العقد الاجتماعي لدولة الاستقلال وانفراط حباته.فقد تمكن العقد الاجتماعي لعقود طويلة أن يجسد أحلام الشباب في الانعتاق والتقدم والانخراط في مسيرة التحديث .
إلا انه مع أزمة العقد الاجتماعي فقد نمت الهوة بين الآمال والأحلام وقدرة الدولة والسياسات العمومية على الانجاز.
كيف نخرج من هذا النفق ؟
إن السؤال الرئيسي والذي يجب أن يكون الشغل الشاغل لأجهزة الدولة ومؤسساتها هو كيفية الخروج من هذه القطيعة ومحاولة إعادة بناء علاقات التعاون والثقة بين مؤسسات الدولة والحركات الشبابية .وفي هذا الإطار أقدم خمس مقترحات للخروج من هذا النفق ومن هذه القطيعة .
- المقترح الأول يهم وقف اذكاء النار والحد من العنف المباشر والرمزي من مؤسسات الدولة لأجل إعادة بناء الثقة والتي تشكل نقطة الانطلاق لإعادة الحوار
- المقترح الثاني يهم فتح حوار هادئ ورضين بعيدا عن العنف والاستفزاز بين مؤسسات الدولة الحركات الشبابية .
- إعادة النظر في السياسات التي أثبتت فشلها وعدم قدرتها على فتح آفاق جديدة للحركات الشبابية
- دعم البحوث السوسيولوجية ومراكز البحث لفهم الأسباب العميقة لهذه الحركات الاحتجاجية وربط علاقات وثيقة بين هذه المراكز ومؤسسات الدولة في إطار ضبط السياسات العمومية .
- دعم التنظيم الشبابي الحر وخلق منظمات مستقلة وجمعيات وفتح قنوات حوار جدية معها.
تعيش بلادنا منذ سنوات علاقة قطيعة وهوة واسعة بين مؤسسات الدولة والحركات الشبابية .وتجاوز هذه الهوة والخروج من هذا النفق لا يمر عبر العنف والاستفزاز بل يتطلب حوار هادئا ورصينا من أجل فتح تجربة سياسية جديدة .