أشارت كل هذه المؤشرات الى الجائحة الصحية الأخيرة وأزمة الكورونا هي تعبيرة على أزمة عميقة، فقد امتدت الى أسس النظام الانساني ونمط العيش في مجتمعنا، فالأزمة هي فكرية وفلسفية حيث وضعت موضع الجدل والنقاش فلسفة الحداثة وهيمنة العقل اللامتناهية على العالم لتتحول مع مر العقود الى هيمنة للانسان المعتد بذاته على الكون وعلى الطبيعة، وكان هذا المجال الفكري والفلسفي وراء كل التجارب ومحاولات السيطرة على حركة الكون، فجاءت هذه القناعات الدنيوية لتعوض الموروث الديني ولتعويض المطلق الديني بمنطق إنساني مسلح بالعلم وبالاكتشافات التي مكنته من السيطرة على الطبيعة ولو لوقت.
ولم تقتصر هذه الأزمة على الجوانب الفكرية والفلسفية بل امتدت كذلك إلى المجال السياسي لتدك أركان النظام الديمقراطي. فقد فقد هذا النظام قدرته على إعطاء الحلم للناس ولم تعد السياسة قادرة على تغيير المجتمعات نحو الأفضل. هذا العجز السياسي كان وراء ظهور الاحباط والحزن والكآبة في أغلب المجتمعات الديمقراطية.
لم تقف هذه الأزمات على الجوانب الفكرية والسياسية بل شملت كذلك الجوانب الاقتصادية مع هيمنة الجشع والبحث المتواصل على الربح في المجتمعات الرأسمالية، فقد فقدت هذه المجتمعات كل الروابط والمؤسسات التي قيدت في السابق كل أنواع النهم والجشع لتفتح الباب واسعا أمام المغامرين والباحثين عن الربح السريع.
كما شغلت هذه الأزمة العامة النظام أو العقد الاجتماعي والمؤسسات التي حافظت لسنوات طويلة على مبادئ التضامن والتآزر التي نادت بها المجتمعات الحديثة والأنظمة السياسية الديمقراطية.
العالم اليوم بصدد أزمة عميقة والجائحة الصحية ليست إلا تعبيرا ومؤشرا لأزمة حضارية جوهرية تمس النظام الموروث من الثورات الأوروبية وفلسفة الأنوار. وقد امتدت هذه الأزمة الى الثالوث المقدس للمجتمعات الما بعد تقليدية وهي الحداثة والديمقراطية والرأسمالية. فكل مجال من هذه المجالات الثلاثة وصل الى حدوده وانقلبت أفكار التحرر والهروب من الاغتراب ومن هيمنة الآخر إلى ضدها.
وقد أصبحت المجتمعات الحديثة مجالا لهيمنة جديدة واغتراب خلنا القطيعة معهما نهائية.
إن عالم اليوم يتطلب قطيعة ابستمولوجية بمستوى التي عرفها في نهاية القرن الثامن عشر ومع ظهور المجتمعات الحديثة. وفي رأينا فان هذه القطيعة يجب أن تعيد النظر في الثالوث المكون للعالم الحديث والذي قاد التجارب الكونية وحركة التاريخ على مدى قرنين.
المسألة الأولى تهم القاعدة الفكرية التي قادت العالم الحديث والتي جعلت من العقل المرجع الأساسي للفكر وللعمل. وشكلت هذه القاعدة وهذا التمشي قطيعة أساسية في الفكر البشري ليجعل من الانسان ومن تفكيره قاعدة الحكمة والعمل، إلا أن هذا المبدأ وهذه القاعدة الفلسفية انحرفا عن مسارهما التحرري ليصبح العقل وخاصة العلم والتقنية هما جوهر المعرفة. وقد ساهم
هذا الانحراف في تراجع الجانب التحدوي للحداثة وفكر الأنوار لتهمين فكرة الحقيقة المطلقة. إن إعادة إحياء المشروع الفكري يجب أن يقطع مع الحتمية التي فرضتها التقنية ولنعود لاكتشاف المبادئ الفلسفية الأساسية كالشك والنقد لنجعل حتى من الاكتشافات العلمية حقائق ونتائج نسبية.
المسألة الثانية تهم الجانب السياسي. ولئن ساهمت الديمقراطية والنظام السياسي الحديث في تراجع الأنظمة التسلطية فإنه فقد اليوم بريقه ولمعانه وتأثيره على الناس. ولابد لنا اليوم من إعادة النظر في المسألة السياسية وفتح الباب لفكر وممارسة سياسة قادرتين على إعادة الأمل في التغيير ونفض الغبار عن فكرة التقدم وبالتالي قدرة الانسان على تغيير واقعه.
المسألة الثالثة تهم النظام الاقتصادي، ولئن ساهم النظام الرأسمالي في تحرير الانسانية من طغيان الأنظمة الاقطاعية وفي تنامي الانتاجية التي ساهمت في تحرير الناس من الجوع والفقر، فقد عرف في العقود الأخيرة تنامي الجشع واللهث وراء الكسب السريع والربح.
وهذا يتطلب اصلاحات كبرى وأساسية تضع نصب أعين النظام الاقتصادي الجديد قضايا الاندماج و العدالة الاجتماعية والمناخ واحترام الطبيعة.
لقد مكنتنا هذه الجائحة من الوقوف لا فقط على أزمة القطاع الصحي بل كذلك على أزمة أعمق وأشمل وهي أزمة المشروع التحرري الموروث من مشروع الحداثة الكوني وفلسفة الأنوار. وهذه الأزمة تتطلب في رأيي مشروعا حضاريا جديدا يمكننا من تجاوز أزمة المشروع الحداثي ويمكننا من إعادة بريق مشروع التغيير لبناء تجربة إنسانية وتاريخية جديدة.