تلقاه لدى العامّة من الناس، من باعة ومن شغّيلة ومن بشر يحيا. تراه ضاربا في القطاع العموميّ. كلّ حسب موقعه، سكّينه يفعل فسادا، يأخذ رشوة، يأتي غشّا... ليست تونس هي البلد الوحيد فيه فساد عامّ، منتشر. ليست هي أكثر البلدان فسادا وتعفّنا. في ما أرى، في كلّ أصقاع الدنيا، هناك تحيّل وابتزاز وغشّ...
انتشار الفساد في الأرض لا يعني أنّ الأمر منتهيّ وأنّه قضاء مقضيّ ولا سبيل الى ردع المفسدين وقد عاثوا في الأرض شرّا. أبدا، لست ممّن يعتقد أن لا سبيل الى صدّ ظاهرة مستفحلة، منتشرة. رغم تعاظم الفساد وقد غدا اليوم ظاهرة عالميّة، فهذا لا يعني القبول بالأمر ولا هو يمنع من مقاومته والتصدّي اليه. بحزم. بكل الوسائل المتوفّرة...
يبقى السؤال قائما: كيف مقاومة الفساد في تونس؟ في ما رأينا، هناك نوعان من الفساد: الفساد الصغير والفساد الكبير. تجاه هذين النمطين، يجب الاعداد لنمطين من الفعل. حسب خطورة الواحد وأثره تكون الاجابة وتتحدّد المنهجيّة... خطر الفساد الكبير، كما بيّنا في مقال أوّل، هو الأشدّ والأكثر وقعا. هذا الفساد الكبير نلقاه في الصفقات العموميّة وفي ما تأتيه دوائر السلط السياسيّة من بيع وشراء ومن مشاريع مختلفة. كما نلقاه عند كبار رجال الأعمال وما يأتيه بعضهم من تبييض للأموال ومن كسب «حرام» واعتماد التهريب والجريمة المنظّمة والإرهاب أيضا... هذا الفساد الكبير يمسّ أموالا بالغة وله الأثر السيء على خزينة الدولة وعلى السوق وعلى الشؤون العامّة. فيه أيضا تعميق للهوّة بين الطبقات. ولأنّه فساد كبير فهو فساد مفضوح، معلوم. الكثير يتبيّنه. يتفطّن لأمره. يحكي الناس عنه. هو فساد مثير للسخط ومؤسّس للضغينة والحقد، خاصّة اذا أتاه فاعلون من الإدارة، من الوزارة، من السلط التي ائتمنت وخانت الأمانة واستثرت بلا حقّ...
يجب محاربة هذا الفساد الكبير دون هوادة. يجب فضحه والتشهير به وعقاب أصحابه شرّ عقاب. وفقا للقانون. في فضح هؤلاء وفي قطع سبلهم، هناك اعلام للناس أنّ السلط حريصة، ساهرة، وهي تحاسب الفاسدين بكلّ حزم، بلا رحمة. لمّا يرى الناس أنّ سيف القانون مسلول على الرقاب وأنّ الكلّ أمام القانون سواء، قد ينتهي الفساد أو قل سوف يتراجع أمره...
الاشكال في الفساد الكبير، هو أنّ مقترفيّ هذا النوع من «الاثم» هم غالبا هم من أهل الحلّ والعقد. هم من جماعة السلط العليا (حكومة وأحزابا ومنظّمات اجتماعيّة)، أو هم من الخواصّ المقرّبين من أهل السلط العليا. أحيانا كثيرة، بين الطرفين، العامّ والخاصّ، هناك علاقات عائليّة أو مصالح وغايات مشتركة...
كيف مقاومة هؤلاء الفسّاد وهم أسياد القوم وأولي الأمر في البلد؟ كيف تطبيق القوانين وهم صنّاع القوانين والمشرفون على تطبيقه، أرضا؟ هنا يكمن الاشكال. هنا تكمن المعضلة. من العسر الشديد، في الكثير من الحالات، تطبيق القانون وإيقاف المفسدين ومجازاتهم عمّا فعلوا. غالبا، ما يتمتّع هؤلاء بحماية، بحصانة، بضمانات مختلفة. لا يمسّهم قضاء ولا قانون ولا يدخلون محكمة. هم فوق الأرض. هم في مأمن من كلّ تتبّع وفي هذا، كما لا يخفى، غبن للناس ومظلمة. أحيانا، كما حصل في الزمن القريب، يتمّ التتبّع ويسجن فاسد ذاع صيته، فنحسب غلطا أنّ السلط تصدّ الفساد وتردع. ثمّ ننظر، نتبيّن، فنرى أنّ الايقاف لم يحصل من أجل فساد تمّ بل فقط لأنّ خلافا نشأ بين أهل الحلّ والعقد وأنّ السجن جاء من أجل تصفيّة حسابات. ليس أكثر...
•••
متى تقدر السلط على مقاومة الفساد والضرب على أيدي الفاسدين؟ لمّا تكون السلط قويّة، متمكّنة، لا تخشى. صارمة، صلبة الميراس والجأش، عصيّة، كلّها ثقة. في رأسها مشروع وفي قلبها ايمان وعزم. لمّا تكون السلط متملّكة للحكم، متمكّنة. بيدها الحلّ والعقد وقد استقوت بما جمعت حولها من قوى حيّة. حين تكون الدولة في غنى عن المفسدين وأتباعهم ولها حرّيّة في أخذ ما ترى من قرار وتوجّه. لمقاومة الفساد، يجب أن تكون السلط في بعض «استبداد وتجبّر»...
أمّا الفساد الصغير ذاك الذي نحياه كلّ يوم ونراه لدى الكثير من موظّفي الدولة ولدى الخواص والباعة وغيرهم من الفاعلين في الأرض فهذا يجب أيضا مقاومته وقطع دابره. ولأنّه غير ذي أهمّيّة كبرى، رغم ما له من افساد للعيش وتعطيل للحياة الدنيا، فهناك حلول عدّة يمكن اعتمادها لتجنّبه، للحدّ منه. أوّلا، يجب تحسيس العاملين بخطورة الفعل الشنيع هذا مع الزجر بشدّة كلّما وقع ضبط فاسد في حالة تلبّس. كما يجب التشهير والتنديد بمن أتى بالفعل المشين. بالاضافة الى هذه التدابير الحينيّة، يجب تغيير مناهج العمل والنظر في الخدمات المقدّمة. لو نظرنا، لحذفنا الكثير من خدمات الادارة ورفعنا العديد من القيود المعطّلة. يجب تحرير المواطن من أخطبوط الادارة، من شروطها القمعيّة. كما يجب اعتماد الاعلاميّة في جميع الدواليب حتّى نقطع الصلة بين المواطن والإدارة. في قطع العلاقة قطع لدابر الرشاوي وما تبعها من ارتزاق ومن محسوبيّة...
أخيرا، ماذا عساني أقول في شأن الفساد؟ أقول انّ الفساد ظاهرة اجتماعيّة وأنّ التونسيّ أصبح مدمنا، متعوّدا على الغشّ وعلى الرشوة وعلى كلّ أنواع الفساد الأخرى. طبعا، يجب مقاومة هذا الفساد المتفشّي وضرب أصحابه ضربا. هذا ضروريّ... لكن، يبقى أنّ الأهمّ، عندي، ليس الفساد أساسا. الكلّ يعلم أنّ مقاومة الفساد لن تعطي انتاجا أفضل ولن توفّر شغلا ولن تؤكل خبزا. أن نقضي على المفسدين لا يعني أن تونس ستصبح أرقى... ما يجري في البلاد من اهمال للتعليم، للصحّة، للنقل، ما كان من تلويث للبيئة وتخريب للمحيط، ما نرى في البلاد من تقاعس، من تواكل، من كسل مستفحل... هذا هو الفساد الأكبر والأشدّ وتجاه هذه الاشكالات العصيبة يجب أن نلتفّ ونسعى.