أستاذ علم الاجتماع في جامعة تونس، اعتبر فيه أن نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية كانت عقابا للمنظومة التي تحكم البلاد منذ 2011 على «أدائها الكارثي» وللأطراف «الحداثوية» لشططها في المطالبة باحترام حقوق الإنسان وفرض المساواة على مجتمع رافض لها. ومع أن هذا المقال أثار فينا الكثير من الملاحظات إلا أننا لضيق المجال سنقتصر على نقطتين.
في معنى «منظومة الحكم»
رغم التغيير الذي حصل في تركيبة الحكم إثر الانتخابات الرئاسية والتشريعية لــــ 2014 ومغادرة حزبين من حكومة الترويكا للحكومة وفقدان النهضة للأغلبية في البرلمان ودخولها في حكومة حزب النداء وفق الشروط الذي ضبطها هذا الحزب الفائز ظلت في رأي الأستاذ الهرماسي نفس المنظومة تحكم البلاد. ولا يمكن لقول كهذا أن يكون معقولا، في رأينا، إلا إذا سلمنا بأن الديمقراطية لا تفرز صناع قرار وإنما دمى يحركها لاعبون خلف المشهد وهذا بطبيعة الحال مخالف لمنطق الديمقراطية حيث نتحدث عن حكومة تقود وتقرر وأغلبية برلمانية ساندة وبرلمان يراقب عملها كما هو الأمر في الديمقراطيات البرلمانية. والغريب في الأمر أن ما يسميه الأستاذ «منظومة الحكم» في صيغتها الأخيرة تكونت إثر ما سُمي بحوار وطني شارك فيه الحزب الجمهوري، الذي ينتمي إليه الأستاذ صاحب المقال، إلى جانب أحزاب متفاوتة التمثيل في البرلمان وأطراف اجتماعية مؤثرة وهي الاتحاد العام التونسي للشغل وإتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين وأفرز حكومة ائتلافية كان الحزب الجمهوري، الذي ينتمي إليه الأستاذ الهرماسي، طرفا فيها قبل أن سحب دعمه لها. ونذكر الأستاذ هنا أن في الديمقراطيات وخاصة البرلمانية منها تنضم أحزاب إلى ائتلافات حكومية وتنسحب منها وتعارض بعض الجوانب من العمل الحكومي وتساند أخرى وتدعو أحيانا إلى حجب الثقة عن الحكومة دون أن يؤدي ذلك إلى استخدام لغة راديكالية توحي بها كلمة منظومة أو إلى تخوينها أو ترذيلها أو تسخيف ما حققته من ايجابيات مدة حكمها. و ما يثير
الاستغراب أيضا أن الأستاذ الهرماسي حمل مسؤولية الفشل إلى منظومة الحكم المتكونة من الأحزاب ونسي أن الأطراف الاجتماعية ساهمت في تشكيلها وأن أحدها وهو الاتحاد العام التونسي للشغل رفض منح الحكومة هدنة اجتماعية حتى تستطيع أن تشتغل بأريحية لإعادة التوازن للمالية العمومية المختلة ودفع في اتجاه سلسلة من الإضرابات وصلت مداها فيما بعد بإضرابين عامين في القطاع العام وفي الوظيفة العمومية من أجل الزيادة في الأجور .والسؤال الذي نوجهه للأستاذ هنا هو التالي: ألا يكون لذلك الاتحاد العام التونسي للشغل مسؤلا بقدر مسؤولية الحكومة، أو وفق تعبير الأستاذ منظومة الحكم، على الركود الاقتصادي وتراجع الاستثمار وعزوف المستثمرين التونسيين والأجانب والبطالة المستشرية وارتفاع نسب التضخم وتراجع القدرة الشرائية رغم الزيادات المتتالية في الأجور ونزول قيمة الدينار وتعطيل مسار التنمية وخاصة في الجهات الداخلية أي ما يعتبره الأستاذ نتائج كارثية؟
الحرية الفردية وحقوق الإنسان
وعلى صعيد آخر أرجع الأستاذ الدكتور هزيمة ممثلي النخب الحداثية في الدور الأول للانتخابات الرئاسية إلى إصرارها على توسيع نطاق الحرية الفردية وعلى فرض احترام حقوق الإنسان. والغريب أنه لا يتوانى عن التذكير، في مقاله، بأن توجهاته السياسية والفكرية هي في صميمها اشتراكية ديمقراطية وتقدميّة أي يسارية وهي بطبيعة الحال نفس توجهات الحزب الذي ينتمي إليه. غير أن المواقف التي عبر عنها في هذا المقال لا تمتّ، في رأينا بأيّ صلة إلى قيم اليسار وإلى مبادئه سواء في تونس أو في العالم بل إنها تتساوق مع وجهات نظر ومواقف يمينية ومحافظة معادية لكونية حقوق الإنسان وللحريات الفردية وتتضارب مع دستور البلاد لـــ 2014 وما ضمنه من حقوق وحريات للشعب التونسي. فكأننا به يعتبر أن تفعيل ما ورد في الدستور في باب الحريات بإلغاء كل القوانين التي تتنافى معه وتجيز للسلطة العامة التدخل في الحياة الخاصة للناس أو تقييد حرية الأفراد في المجال العام من باب هدر لحقوق الأغلبية. ولا نفهم إن كان يتعين عندها مراجعة هذا الجانب من الدستور الذي ضمن الحريات العامة والفردية حتى يمكن تنزيله في السياق التونسي كما يراه الأستاذ أم يتعين تعليق تطبيقه إلى أن يتغير مزاج الأغلبية وتصبح قابلة به وهو ما لا يبينه الأستاذ في مقاله.
أما فيما يتعلق بهجومه العنيف على نشطاء حقوق الإنسان والمدافعين عن حق الموقوفين والسجناء في المعاملة اللائقة والمحاكمة العادلة أو على المطالبين بإلغاء عقوبة الإعدام ونعته لهم بالعمالة للأوساط الغربية وتجاهل خصوصيات السياق التونسي والتنكر لقيم المجتمع فلا يسعنا إلا أن نجلب انتباهه، وهو عالم الاجتماع، إلى أن القيم متحركة ومتغيرة وأنها نادرا ما تكون منسجمة حتى ولو كانت منظومة قيميّة غالبة ومسيطرة على المجتمع بأسره.
فبفعل الانفتاح والعولمة تسارع نسق المثاقفة acculturation ولم تعد هناك قيم غربية ليبرالية وعقلانية وفردانية تقابلها على الجهة الأخرى قيم شرقية جمعية collectivistes ودينية مناهضة لمبدإ الحرية الفردية. فداخل نفس المجتمع نجد تشكيلة قيمية غير متجانسة تتصارع فيها قيم الحداثة وأساسا قيمتا الحرية الفردية والمساواة إلى جانب قيم محافظة ترى في قيم الحداثة خطرا على نظام المجتمع واستقراره وتعلي من شأن التقاليد والمراتبية ودور السلط المعنوية والدينية على وجه خاص. وهذا التقابل بين الضربين من المنظومات القيمية نجده بدرجات متفاوتة اليوم في كل المجتمعات سواء أكانت غربية أو شرقية ديمقراطية أو استبدادية. ففي الغرب، الذي يعتبره الأستاذ في مقاله فردانيا، توجد إتجاهات وفلسفات
محافظة جماعتية تندد بالفردانية وتدعو للتصدي إليها وتعلي من قيمة التقاليد والتاريخ الخاص بالجماعة ومن دور السلط المعنوية والروحية وتنوه بقيمة التراتبية الاجتماعية وتدعو إلى تقليص الرقابة القضائية على الأجهزة الأمنية حتى تكون أكثر فاعلية في التصدي للإرهاب والجرائم وتنتقد، كما يفعل الأستاذ، منظمات حقوق الإنسان لمطالبتها للسلط الأمنية والقضائية باحترام حقوق الإنسان. وفي المقابل توجد قوى وفلسفات ليبرالية تدافع عن الحقوق الفردية وحق الشخص في السيادة الكاملة على نفسه وتدعو السلطات القضائية إلى الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية ذات الصلة . أما البلدان التي تسمى مشرقية فليست هي الأخرى بالمتجانسة على صعيدي القيم والثقافة وتعرف هي الأخرى نزاعا بين قيم
الماضي والحاضر ويكفي أن ننظر اليوم في الحركات الاحتجاجية في الصين وفي إيران وفي هونغ كونغ وفي روسيا وفي البلدان العربية التي يقودها في المعظم شباب منتفض من اجل الحرية والمساواة والكرامة لنجد تكذيبا لما سمي بقيم آسيوية أو شرقية قائمة على الانسجام الاجتماعي والقبول بالمراتبية والانضباط للروح الجمعية مختلفة جوهريا عما يسمى بالقيم الغربية الفردانية. ولا يفوتنا أن نذكر الأستاذ الهرماسي أن الجمعيات المناضلة من أجل حقوق الإنسان في تونس هي جزء من حركة عالمية تدفع في نفس الاتجاه وهو الدفاع عن كرامة البشر وحقهم كل فرد منهم في الحرمة الجسدية وفي التقدير المتساوي مع غيره مهما كان لونه أوعرقه أودينه أوجنسه ومهما كانت ميولاته الجنسية ، وهي قوة ضاغطة على المجتمعات والشعوب والحكومات سواء أكانت ديمقراطية أو استبدادية غربية أو شرقية مسلمة أو هندوسية ، مسيحية أو بوذية أو يهودية وأن الاشتراك في القيم الكونية والعمل على نشرها وإقناع الناس بها أمر مشروع. أما ما هو غريب فهو أن يسمي ذلك الأستاذ رضوخا للأوساط الغربية بل إن في الأوساط الغربية اتجاهات يمينية محافظة وقومية وشعبوية
وعنصرية تشاركه الرأي في رفض كونية هذه القيم والمبادئ بل تعتبرها قيما غربية وأن الكثير من شعوب العالم، منها شعوبنا نحن العربية والإسلامية، ليست أهلا بها. أما فيما يتعلق برأي الأستاذ في أن فرض الاحترام للحق في الحياة «تساهل مع المجرمين ومرتكبي الجرائم البشعة» فهو أيضا مجاف للواقع ومفاجئ من قبل عالم اجتماع. فالدراسات تثبت أن المدن والولايات الأمريكية الأكثر لجوءا إلى عقوبة الإعدام لم تشهد تقلصا في معدلات الجريمة. كما تطالعنا وسائل الإعلام من حين إلى الآخر بحالات قتل وجرائم أعدم بسببها أناس تبيّن فيما بعد أنهم لم يكونوا المجرمين الحقيقيين في حين أن هناك من أدينوا وحكم عليهم بالمؤبد وثبت فيما بعد براءتهم وأطلق سراحهم. فلو نزعت من هؤلاء الحياة هل من الممكن تدارك الأمر لو ظهرت في ما بعد براءتهم؟ ويبدو هنا أن الأستاذ، ينسى أو لعله يتناسى، أن العدالة مهما كانت ناجزة تظل دوما بشرية يديرها بشر وينفذون أحكامها على بشر وهي تصيب وتخطئ ولذا وجب تفادي الأخطاء التي لا يمكن تداركها وأولها نزع الحياة من شخص بريء.