فقد خرج صندوق النقد عن تحفظه التقليدي والاعتيادي في التعاطي مع البلدان الأعضاء حيث تتسم تقاريره وتصريحات مسؤوليه بالكثير من التحفظ والحذر. وقد جدد هذا الخطاب المباشر والبعيد عن الديبلوماسية التي تميز خطاباته حتى في فترات الأزمات في البيان الذي أصدره فريق الخبراء الذي زار تونس في نفس هذا الشهر .
ولعل الذي يميز هذا الخطاب الجديد القديم لصندوق النقد الدولي في قراءته للوضع الاقتصادي في بلادنا هو خروجه نسبيا عن الديبلوماسية والحذر اللذين ميزا خطاباته في السابق .فلئن أكد في مجمل تصريحاته وتقاريره السابقة على تحسن الوضع الاقتصادي وتعافيه فان الصندوق يشير اليوم إلى تزايد المخاطر التي تحيط بالاقتصاد التونسي والتأكيد على آن القادم سيكون صعبا ودقيقا .
أما الميزة الثانية فهي في شكل مفارقة أو تناقض بين خطاب صندوق النقد والذي قطع مع التحفظ التقليدي والخطاب الرسمي الذي لايزال موغلا في الايجابية والتأكيد على بداية تعافي الاقتصاد.
ففي الوقت الذي يؤكد فيه صندوق النقد على المخاطر الكبرى والصعوبات التي ستواجه اقتصادنا في الأسابيع والأشهر القادمة لايزال الخطاب الرسمي كالنعامة يخفي الرأس في الرمال ويتشبث بمروية رسمية تؤكد على تحسن الاقتصاد وتعافيه بالرغم من أنها لم تعد تقنع أحدا.
سنحاول في هذا المقال الوقوف على ثلاث مسائل أساسية : قراءة صندوق النقد للواقع الاقتصادي ،علاقة هذا الوضع بالسياسات التي فرضها الصندوق وأخيرا أين الحكومة من هذه الأوضاع وقدرتها على وضع وتحديد السياسات للخروج من هذا الواقع والأزمة الاقتصادية العميقة التي تمر بها بلادنا .
في البداية ما هي العناصر الأساسية لقراءة صندوق النقد للوضع الاقتصادي لبلادنا ؟
لقد أكدت التقارير الأخيرة لصندوق النقد الدولي على مسألتين هامتين . الأولى تشير إلى بعض التحسن في بعض النتائج الاقتصادية المسجلة في بداية هذه السنة.وقد ثمن التقرير والتصريحات والبلاغات الصحفية التخفيض في التضخم والذي تجاوز %7 في السنة المنقضية وتراجع في بداية هذه السنة إلى 6.8 % ويبقى هذا التراجع في رأيي محدودا ونسبيا . ويشير صندوق النقد في اتفاق مع الحكومة إلى أن هذا التراجع هو نتيجة التشدد في السياسة النقدية التي اتبعها البنك المركزي في الأشهر الأخيرة .إلا أن الصندوق كما الحكومة والبنك المركزي كذلك تغافلوا عن التعرض للانعكاسات الأخرى للسياسة النقدية المتشددة وبصفة خاصة على تراجع النمو والاستثمار .
المسألة الثانية التي يشير إليها صندوق النقد ويثمن فيها النتائج الاقتصادية للحكومة هي تراجع عجز الميزانية بصفة خاصة مع الضغط على عجز المالية العمومية .ولئن يعتبر هذا المؤشر ايجابيا باعتباره سيسمح بالحد من المديونية إلا انه صاحبه في الأشهر والأسابيع الأخيرة بالتلكؤ والتأخير الكبير الذي تعرفه الدولة في احترام التزاماتها المالية وبصفة خاصة في دفع وتسديد فاتوراتها إلى مؤسساتنا الاقتصادية .وقد أصبح هذا التأخير هاجسا كبيرا لدى عدد كبير من المؤسسات الاقتصادية وبصفة خاصة المؤسسات الصغرى التي وصل الكثير منها إلى حالة الإفلاس بسبب التأخر الكبير في الدفع .
وأمام هذه النتائج الايجابية المحدودة،فإن تقارير صندوق النقد تشير إلى تزايد كبير للمخاطر والأخطار في الأشهر الأخيرة ومنذ بداية هذه السنة مقارنة بالسنوات الأخيرة مما ينذر بتعميق الأزمة الاقتصادية في الأسابيع القادمة.ويشير الصندوق إلى ثلاثة مصادر أساسية وراء هذه المخاطر .
المسألة الأولى مرتبطة بعودة أسعار النفط إلى الصعود مع تصاعد التوتر في الخليج العربي بسبب شبح الحرب بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران .والصعود اسعار النفط انعكاسات كبيرة على العجز التجاري لبلادنا وعجز الميزانية .المصدر الثاني لتخوف الصندوق من مستقبل الاقتصاد في بلادنا يعود إلى تراجع النمو عند شركائنا وبصفة خاصة في البلدان الأوروبية التي عرفت اغلبها انخفاضا في النمو منذ بداية السنة مما سينعكس سلبا على صادراتنا .
أما مصدر القلق الثالث لصندوق النقد فيعود إلى الارتفاع الطفيف للدينار في الأسابيع الأخيرة . أي نعم المسألة التي تنفس التونسيون معها الصعداء في الأسابيع الأخيرة أي استقرار الدينار وارتفاعه مقارنة بالعملات الأجنبية وخاصة اليورو والدولار يعتبرها صندوق النقد مصدر تخوف وقلق .ولقد كنت أشرت في العديد من المداخلات إلى انه وبالرغم من أن هذا التحسن لا يعود بالأساس إلى سياستنا الاقتصادية بل وهو نتيجة تراجع السياسات النقدية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وارتفاع مخزوننا من العملة الأجنبية بفضل المديونية فان هذا الاستقرار هام باعتباره ساهم في تراجع التضخم المستورد.
وستكون لهذه التطورات انعكاسات كبيرة حسب صندوق النقد على مستوى النمو الذي عرف انخفاضا كبيرا منذ بداية السنة ولن نتمكن من تحقيق النسبة المرتقبة حسب الصندوق والحكومة والتي كانت بـ%3 – وحسب كل التكهنات فإن نسبة النمو لن تتجاوز 2 % لنعود إلى مربع النمو الهش .كما ان هذه التطورات ستكون لها انعكاسات سلبية حسب صندوق النقد على التوازنات الكبرى لاقتصادنا التي ستعرف ارتفاع العجز وانخراما كبيرا.
على خلاف الحكومة والخطاب الرسمي الذي لا يمل من تأكيد بداية تحسن الوضع الاقتصادي وتعافي بلادنا وان كان هذا التعافي مؤجلا من سنة لأخرى حسب المروية الرسمية فان صندوق النقد يشير إلى التردي المنتظر للوضع الاقتصادي أمام تصاعد المخاطر في الأسابيع الأخيرة .
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه يخص مسؤولية السياسات التي دافع عنها الصندوق وفرضها بعض الشيء على الحكومة والبنك المركزي في تردي الوضع الاقتصادي وتصاعد المخاطر .
في هذا الإطار وبالرغم من تراكم السحب والغيوم في سماء اقتصادنا فان صندوق النقد ينصح الحكومة والبنك المركزي بالمواصلة في نفس السياسات المتبعة منذ سنتين. ويدعو خبراء الصندوق في بلادنا إلى مواصلة الأداء الايجابي في تحصيل الضرائب والمتأخرات الضريبية واتخاذ إجراءات جديدة لاحتواء النفقات الجارية في المالية العمومية .كما يركز على أهمية الوصول بفاتورة الأجور ودعم الطاقة إلى مستويات أكثر اعتدالا . ولعل التوصيات الأكثر أهمية تخص مواصلة السياسة النقدية التشددية لتخفيض التضخم ومتابعة السياسة المرنة في سعر الصرف للتقليص من عجز الحساب الجاري والترفيع في الاحتياطات الدولية .
لقد اشرنا في العديد من المقالات إلى الانعكاسات السلبية وتأثيراتها على الوضع الاقتصادي في بلادنا .فالسياسة النقدية التشددية ولئن ساهمت بصفة محدودة في التخفيض من نسبة التضخم فلقد أشرت منذ أشهر أنها ستكون لها انعكاسات سلبية على الاستثمار والنمو. ولقد بدأنا في رأيي نعيش هذا التأثير بعد التراجع الكبير للنمو في بداية هذه السنة ومواصلة الاستثمار لحالة التردد والانتظار.ونشير كذلك في هذا المجال إلى التناقض الكبير وغياب التناسق الذي نعيشه منذ سنوات بين السياسة المالية التوسعية والسياسة النقدية المتشددة .
الجانب الثاني يهم سياسة المرونة في سعر الصرف والتي فشلت في تحسين القدرة التنافسية لصادراتنا لكنها لعبت دورا كبيرا في تسريع وتيرة التضخم بفعل التضخم المستورد .وقد لعب الاستقرار النسبي للدينار في الأسابيع الأخيرة دورا في تراجع التضخم .
ولئن نتفق مع صندوق النقد الدولي في تصاعد المخاطر وارتفاع حدة الأزمة الاقتصادية فانه لابد من الإشارة إلى ان بعض السياسات المقترحة كانت لها تأثيرات سلبية ولعبت دورا في تردي الأوضاع الاقتصادية .
ويبقى السؤال الثالث والاهم وهو أين نحن من هذه الأوضاع وما هو موقف أصحاب القرار من هذه القراءات .
إن القراءة الرسمية تتراوح بين موقفين مهمين . الأول هو الاختلاف مع صندوق النقد والتأكيد على بوادر التحسن والتعافي في الوضع الاقتصادي وان كان هذا التعافي مؤجلا من فترة لأخرى.
الموقف الثاني هو الهرولة وراء الصندوق وإتباع توصياته بحذافيرها بالرغم من انعكاساتها السلبية على اقتصادنا .
هذه هي المفارقة التي تعيشها سياساتنا الاقتصادية منذ سنتين : الاختلاف في العلن والاتفاق في السر .طبعا أريد التأكيد على أهمية ربط علاقات تعاون مع الصندوق وكل المؤسسات الدولية ولست من الداعين إلى قطعها .كل ما نطمح اليه هو دعم قدرتنا التفاوضية ومحاولة ابراز صوتنا واختياراتنا في هذه المفاوضات التي لا نشك في صعوبتها ودقتها .
إن الأوضاع الاقتصادية الصعبة والأزمة الخانقة التي تعشيها بلادنا تتطلب منا تحديد رؤيا إستراتيجية هدفها إعادة الاستقرار الاقتصادي لبلادنا والمرور إلى إرساء نمط تنمية جديد يعيد الأمل ويجعل من بلادنا الاقتصاد الصاعد في محيط المتوسط في السنوات القادمة .