الأبرز في بلادنا . وقد تميز المعرض هذه السنة بحركية وبحضور جماهيري كبير جدا مما يجعلنا نأخذ الأرقام التي قدمتها مؤسسات الإحصاء حول المستوى المتدني للتونسيين في القراءة بالكثير من الحذر. فقد شاهدنا الطوابير الطويلة للعائلات التونسية أمام المعرض لاكتشاف آخر إصدارات وشراء بعض الكتب والمؤلفات لأبنائهم .
والحركية والدينامكية التي أثثها المعرض لم تقتصر على الإقبال الجماهيري بل امتدت كذلك إلى جملة الأنشطة الثقافية والفكرية التي نظمها المعرض بحضور الكثير من المثقفين التونسيين والأجانب .
أما الجانب الآخر لأهمية هذا الحدث فهو عدد الإصدارات من روايات ودراسات وكتب أخرى مختلفة واصبح المعرض في السنوات الاخيرة يشهد كثافة هامة في عدد الإصدارات الجديدة. فتجد اغلب الناشرين يسرعون في إنهاء آخر الترتيبات لتكون الإصدارات الجديدة جاهزة للمعرض .
وككل معرض أتحفنا الناشرون والكتاب بالعديد من الكتب والإصدارات الهامة والتي نالت الكثير من الاهتمام من قبل النقاد والقراء . وسأحاول في هذا المقال الوقوف على احد الكتب التي أثارت اهتمامي واعتبرها شخصيا احد أهم الإصدارات الفكرية في بلادنا في السنوات الأخيرة . هذا الكتاب هو بعنوان « مجتمع المقاومة: ما بعد الاسلاموية ما بعد البورقيبية ، ما بعد الماركسية » للصديق والناشط السياسي ماهر حنين وقد صدر عن دار كلمات عابرة منذ أيام .
وتكمن أهمية هذا الكتاب في رأيي في ثلاث مسائل أساسية . المسألة الأولى في رأيي هي المسار الشخصي للمؤلف في المستويين السياسي والفكري . وللذين لم يعرفوه ينتمي ماهر حنين إلى جيل الثمانينات في الجامعة التونسية والذين سيلعبون دورا محوريا في الحياة السياسية في بلادنا إلى يومنا هذا . ويضم هذا الجيل العديد من الناشطين من مختلف الاتجاهات السياسية اذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر الشهيد شكري بلعيد وسمير العبيدي وسفيان بن فرحات وعصام الشابي ونوفل الزيادي وماهر حنين وجوهر بن مبارك والمرحوم الطاهر قرقورة ورضا المكي وآخرين كثيرين من مختلف الاتجاهات اليسارية وعبد الكريم الهاروني والهاشمي الحامدي وعبد اللطيف المكي ونور الدين البحيري وعامر العريض ونجم الدين الحمروني والعجمي الوريمي وغيرهم من الاتجاه الإسلامي . وقد بدأ ما هر حنين نشاطه السياسي ككل الناشطين في تلك الفترة في الحركة التلمذية قبل أن يتقدم إلى الجامعة ليتبوأ مراكز قيادية في الحركة الطلابية أهمها انتخابه في المكتب التنفيذي للاتحاد العام لطلبة تونس الذي انبثق عن المؤتمر 18 الخارق للعادة بعد سنوات من المنع اثر انقلاب الأقلية الدستورية على الأغلبية في مؤتمر قربة سنة 1971.
ولم يقتصر نشاطه السياسي على الحركة الطلابية بل سينخرط ماهر حنين في العمل السياسي العلني ليكون من ضمن مجموعة من المناضلين اليساريين التي التحقت بالحزب الديمقراطي التقدمي تحت قيادة السيد نجيب الشابي وليعيش سنوات الجمر والنضال من اجل الديمقراطية . ثم سيواصل ماهر حنين هذه المسيرة النضالية بعد الثورة في الحزب الجمهوري الذي سيكون احد قيادييه لينسحب اثر الخلافات الداخلية في صلب الحزب مع المجموعة التي قادها في سنة 2013 سعيد العايدي والتي سيلتحق اغلب مناضليها بحزب نداء تونس ما عدى قلة قليلة ستلتحق مع ماهر حنين بحزب المسار .
إلا أن هذا الالتزام السياسي المنظم لن يدوم طويلا حيث سيقرر ماهر حنين تعليق نشاطه الحزبي منذ سنة 2014 ليواصل نشاطه السياسي ضمن المجتمع المدني صلب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وجمعية نشاز .
وهذه القطيعة التنظيمية مع الأحزاب اليسارية التقليدية ستصحبها قطيعة فكرية مع الفكر الماركسي التقليدي الشائع في عديد التنظيمات . فلئن أتى ماهر حنين من آفاق سياسية وفكرية يسارية تقليدية فان تجربته العملية واليومية دفعته إلى القطع مع الأصول للبحث خلال انخراطه في الحركات الاجتماعية والاحتجاجية عن دوافع جديدة للالتزام السياسي والفكري .
في رأيي فإن هذا المسار الخصوصي لماهر حنين والمسافة النقدية الهامة التي وضعها أمام تجاربه الفكرية والسياسية تجعل كتاباته وأفكاره مساهمات جديرة بالاهتمام .
المسالة الثانية والتي تثير الاهتمام في هذا الكتاب تعود إلى محاولة الكاتب ربط الممارسة السياسية بالعمل الفكري .وهو بذلك من الناشطين السياسيين القلائل الذين حاولوا وعملوا جاهدين على ربط العمل السياسي بالفكر والكتابة ويشير في هذا الكتاب إلى أهمية هذه المسألة في عديد المناسبات ومساهمتها في بناء خصوصية التجربة السياسية في بلادنا .ويشير ماهر حنين إلى أن الكتابة والتفكير لم ينفصلا عن التاريخ السياسي للنخب التونسية بل يمكن القول أن الأثر البالغ في هذا التجربة الحديثة هي تلك النصوص التي طبعت بوقعها وصداها مراحل مفصلية من تاريخنا وصارت اليوم ملاذنا لتأكيد انغراسنا نحن معشر الإصلاحيين والديمقراطيين في أرضنا أكثر من مائة عام فلولا نصوصنا التأسيسية لخف وزننا وسهل على الريح الصفراء بعثرتنا (ص 9)
أما المسألة الثالثة التي تفسر أهمية هذا الكتاب فتكمن في الفرضيات التي حاول الكتاب الدفاع عنها وتأكيدها . الفرضية الأولى تهم طبيعة الثورة التونسية والحركية الاجتماعية والسياسية التي كانت وراء إسقاط النظام والسلطة في بلادنا . ويؤكد الباحث أن أهمية الثورة التونسية على المستوى العالمي تكمن في كونها إحدى أولى الثورات الجديدة التي قامت بها الحركات الاحتجاجية ومجتمعات الهامش . والى جانب الثورة على الأوضاع الاقتصادية والتسلط السياسي فان ثورات الهامش والحركات الاجتماعية تحمل كذلك معاني إنسانية حيث أنها شكلت ردة فعل قوية على نظرية الاحتقار وعقلية الخزي والعار التي تسود المجتمعات الرأسمالية ضد الفئات المهمشة والطبقات المسحوقة.
ومن هذا المنطلق يأخذ شعار الكرامة كل معناه في مطالب ثورات الربيع العربي.
أما الفرضية الثانية فتخص عجز الأطر الفكرية والسياسية الكلاسيكية على استيعاب هذا الزخم الثوري ومخزون الرفض الذي تحمله الحركات الاجتماعية المعاصرة . ويؤكد الباحث على الأطر الفكرية الماركسية والإسلامية والبورقيبية والتي عجزت عن فهم هذه الديناميكية السياسية الجديدة.فالماركسية التقليدية نظرت لهذه الحركات الاجتماعية نظرة ازدراء وتعال واعتبرتها بمثابة البروليتاريا الرثة وغير القادرة على إحداث أي تغيير سياسي واجتماعي . وهذه الثورات كذلك تستعصي على القراءات الإسلامية التقليدية باعتبارها ترفض الجانب الشمولي والمطلق للحركات الدينية . كما لا يمكن للقراءات البورقيبية فهم هذه الحركات السياسية باعتبارها تنقض أهم ركائزها كدور الفرد والزعيم الأكبر ودولة الرعية وإلغاء الدين من الفضاء العام . وبهذا المعنى فقد فتحت الثورة التونسية مرحلة الثورات ما بعد الكولونيالية وهي الثورات المابعد ماركسية وما بعد اسلاموية وما بعد بورقيبية .
أما الفرضية الثالثة فتهم مستقبل وآفاق التغيير الاجتماعي حيث يشير الى ان هذه الثورات ستشكل مستقبل التغيير الاجتماعي في ظل هيمنة العولمة الرأسمالية وعجز الحركات السياسية التقليدية ومن ضمنها القوى اليسارية . ويسعى الكاتب إلى البحث عن الأسس النظرية لهذا التمشي الجديد للتغيير الاجتماعي عند العديد من المفكرين ومنهم المفكر الهندي امارتاسان وربطه بين العدالة والتنمية والحرية والديمقراطية الراديكالية عند جاك رانسيار والشعبوية اليسارية عند ارنستولاكلور وشانتال موف والصراع من اجل الاعتراض والتقدير عند ألكسيل هونيث .
يشكل كتاب ماهر حنين محاولة فكرية من اجل فهم الثورات والفعل السياسي ومستقبل التغيير الاجتماعي من زاوية مجتمع الهامش والحركات الاجتماعية .
إلا انه على أهميته فإن هذا الكتاب وكذلك تجربة الحركات الاجتماعية لا تخلو من النقد. ويمكن أن نشير إلى عديد الجوانب الأساسية في هذه التجارب والتي تشير إلى عدم وضوح الرؤيا وطغيان للجانب الحركي والفوضوي والعفوي في عديد الأحيان. ونشير في هذا الجانب إلى رفض هذه الحركات التحالف مع الأحزاب الكلاسيكية كما هو الشأن مثلا في اسبانيا بالنسبة لبوديموس Bodemos. كما يمكن أن نؤكد على غياب البرامج السياسية والاقتصادية الواضحة لهذه الحركات مما يدفعها في بعض الأحيان إلى تبني أكثر البرامج التقليدية كما هو الشأن لحركة سيرازا في اليونان.