على حرق نفسه ، قد خفت لهيبها ودخلت مرحلة النسيان لتبقى ذكرى بعيدة لأيام حلوة وأحلام وردية عشناها ذات شتاء في عديد البلدان العربية .
وهذه القراءة وإن حاولت أن ترمي بعيدا جذوة الثورة الديمقراطية والمرحلة التاريخية التي دخلها العالم العربي فإنها لا تخلو من الوجاهة والموضوعية . فلقد عرفت الثورات الديمقراطية في العالم العربي مرحلتين تاريخيتين هامتين . المرحلة الأولى والتي امتدت في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا والبحرين من البدايات الأولى للتحركات الشعبية والتي شهدت ذروة ثورية وشعلة واندفاعا جماهيريا كان وراء سقوط بعض الأنظمة وزعزعة وجود بعض الأنظمة الأخرى بعد عقود من الاستبداد والجشع والاستهتار. لقد شكلت هذه السنوات مرحلة هامة في تاريخ المنطقة العربية إذ فتحتها على مخيال سياسي جديد يرتكز على مبادئ حقوق الإنسان والتعدد والديمقراطية . وساهمت هذه المرحلة الثورية في ظهور ديناميكية سياسية جديدة وخروج الناس من مرحلة الخوف والانعكاف على الفضاء الخاص لتفادي جبروت وهيمنة السلطة في الفضاء العام . فظهرت الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية والتي أضفت حركية جديدة على المشهد السياسي العربي وقامت باثرائه وأعطته حيوية كانت غائبة لسنوات طويلة .
إلا أن هذه المرحلة « الوردية» والايجابية في هذا المد الثوري الديمقراطي ستنتهي بعد سنتين لتفتح المجال لمرحلة ثانية سيكون العنف والحروب عنوانها .
فستعرف اغلب بلدان الربيع العربي تراجع حلم التغيير الديمقراطي بداية من سنة 2013 حيث سينفلت العنف من عقاله لتدخل اغلب بلدان الربيع العربي في مرحلة من عدم الاستقرار السياسي والحروب والاعتداءات الإرهابية أصبحت معها تجربة التحول الديمقراطي حلما بعيد المنال . فبعد ان تم اخماد المد الديمقراطي في البحرين بعد تدخل جيوش مجلس التعاون الخليجي وتنحية الرئيس محمود مرسي ورجوع الجيش للسلطة مع عبد الفتاح السيسي دخلت سوريا وليبيا واليمن في حروب أهلية طاحنة ورهيبة أتت على الأخضر واليابس. ولم تنج من هذه التطور الخطير والرهيب للثورات الديمقراطية إلا بلادنا والتي كانت عرضة للاعتداءات الإرهابية ولازمة اقتصادية واجتماعية خانقة وللعديد من الصعوبات السياسية جعلت تجربة التحول الديمقراطي صعبة ومعقدة ومليئة بالتحديات .
كان لهذه الحروب والمصاعب تأثير سلبي على تجارب الثورات الديمقراطية في البلدان العربية ونجحت في قبر أمل التحرر من قبضة الاستبداد ووأده في المهد فتراجعت ثقة الناس في مستقبل التحولات السياسية وفي الديمقراطية . وبدأت فكرة العودة إلى الأنظمة السابقة والتي بالرغم من تسلطها مكنت الشعوب من التمتع بالأمن والاستقرار تأخذ طريقها في الحوار العام مما شجع عديد الأحزاب والحركات القريبة من المنظومات السابقة على العودة إلى دائرة الأضواء بعد غروبها خلال سنوات المد الديمقراطي . كما وجدت الأنظمة التي نجحت في تجنب هذه الثورات في النتائج السياسية التي أعقبتها والحروب والمآسي التي صاحبتها أسبابا للدفاع عن الاستقرار ولتجنب مغامرات الثورات الديمقراطية غير المضمونة العواقب .
قادت انتكاسة الثورات الديمقراطية وتحول اغلب تجارب ثورات الربيع العربي إلى حروب وعدم استقرار وفوضى لم نعرفها في تاريخ دولة الاستقلال إلى حالة من الإحباط واليأس وانعدام الثقة في التجربة السياسية الديمقراطية وفي القطيعة التي فتحتها في التاريخ العربي.
تراجع المد الثوري لهذه التجارب وأصبح الأمن والاستقرار الشغل الشاغل للمواطن العربي. وقد خلنا مع هذه التراجعات أن الثورات الديمقراطية صارت حلما بعيد المنال سيدخل طي التاريخ ويغطيه النسيان .
إلا أن الثورات في السودان والجزائر ستضرب عرض الحائط هذه الأفكار وستعيد لمغامرة الربيع العربي بريقها ولحلم الثورات الديمقراطية إشعاعها .ولقد ذكرتنا التجمعات الشعبية الضخمة المطالبة بتغيير النظام في اغلب المدن الجزائرية والسودانية بأجواء بدايات الربيع العربي في سنوات 2011 و2012 بما فيها من توق للحرية وإرادة حقيقية للخروج من الواقع العفن والمتردي الذي وصلته الأنظمة في هذه البلدان . وبالرغم من أن الثورتين في هذين البلدين لا تزالان في إرهاصاتها الأولى ويصعب التكهن بمستقبلها وآفاق تطورها فانه يمكننا القول أنها فتحت موجة ثانية في ثورات الربيع العربي .
وفي رأيي فإن أوجه الشبه بين الموجة الأولى والموجة الثانية لهذه الثورات عديدة ومتنوعة . سأحاول تناول جانبين هامين في هذا التشابه وهما أسبابها ودينامكيتها وطرق تطورها .
في ما يخص النقطة الأولى أو أسباب ثورات الربيع العربي فإن الموجة الأولى والثانية تلتقيان في أربعة أسباب رئيسية . السبب الأول هو حالة الانغلاق السياسي والأزمة وحتى العفن والتخلف الذي وصلته هذه الأنظمة السياسية . لقد وصلت أنظمة بن علي ومبارك والقذافي إلى حالة من الانغلاق فتحت فجوة كبيرة بينها وبين مجتمعاتها لتصبح في مفارقة تاريخية أمام تطور العالم وطموحات الطبقات الوسطى . ونجد نفس الشيء اليوم في الجزائر حيث يبحث الرئيس السابق عن عهدة رئاسية خامسة في وقت لا يقدر فيه على القيام بأبسط الحركات الفيزيائية . كما أصبح الحكم يدور في حلقة صغيرة جدا من المقربين من عائلة الرئيس والذي أصبح بين أيديهم الأمر والنهي مع تهميش مؤسسات الدولة بطريقة نهائية . ونجد كذلك نفس الشيء في السودان حيث انفرد الرئيس البشير وزمرته العائلية والمقربون منه منذ ففشلهم في إدارة أزمة الجنوب وانفصاله بالسلطة والهيمنة عليها وغلق كل منافذ التعبير التعددي والديمقراطية .
قادت الأزمات السياسية في هذه البلدان وفشل مشروع التحديث الاستبدادي لدولة الاستقلال إلى انغلاق الأنظمة السياسية وانقطاعها عن مجتمعاتها وهروبها إلى الأمام في الانفراد بالرأي وتطبيق سياسة الأمر الواقع . وأصبحت إدارة الحكم تنافس أكثر الأفلام سريالية وكاريكاتورية . وكان لهذه التطورات انعكاسات هامة على المستوى الشعبي حيث دفعت الناس الى الخروج من حالة الرعب والخوف التي شلت حركتها في السابق ودفعتها للخضوع لهذه الأنظمة الاستبدادية . نهاية الخوف كانت نقطة الانطلاق للمقاومة في اغلب بلدان الربيع العربي وبداية النهاية للدولة القوية والاستبداد .
السبب الثاني وراء انطلاق موجتي الثورات الديمقراطية هو اقتصادي ويعود إلى نهاية وفشل أنظمة التنمية التي عرفتها اغلب البلدان العربية مع دولة الاستقلال . وبالعودة إلى التجربة الجزائرية ولئن ساهم الجانب الاقتصادي في حمايتها من تداعيات الموجة الأولى من هذه الثورات فانه سيلعب دورا أساسيا في سقوطها في الأسابيع الأخيرة . بالرغم من محاولات التنويع فقد كان الاقتصاد الجزائري ريعيا ترتبط دينامكيته شديد الارتباط بحركة الأسعار العالمية للمواد الأولية وبصفة خاصة بأسعار الغاز والنفط . وقد ساهمت الأسعار المرتفعة والتي تجاوزت 120 دولارا لبرميل النفط في 2010 في ارتفاع مداخيل الدولة والمتأتية في ثلاثة أرباعها من هذا القطاع . وقد ساهمت هذه المداخيل في الترفيع في الأجور والمداخيل وفي الاستثمار في القطاعات الاجتماعية كالصحة والتعليم مما ساهم في شل الحركة الاجتماعية وإطفاء حريق بداية الاحتجاجات في 2011 وبدايات ثورات الربيع العربي .
إلا أن هذه الطفرة النفطية ستبدأ في التراجع اثر اتجاه الأسعار العالمية للنفط نحو الهبوط بداية من 2013. ويختلف التراجع في أسعار النفط هذه المرة عن المرات السابقة حيث تكمن أسبابه في عوامل هيكلية ومن ضمنها التسريع في إنتاج غاز الشيست في الولايات المتحدة الأمريكية ولا يعود إلى أسباب ظرفية مرتبطة بحركة العرض والطلب في الأسواق العالمية .
هذه التطورات الهيكلية والتغييرات الجذرية في الأسواق العالمية ستكون لها انعكاسات هامة على الأسعار العالمية والتي ستتجه نحو تراجع هيكلي لتمر من أكثر من 100 دولار في 2014 إلى 60 دولارا في 2019 ستنعكس هذه التطورات بطريقة دراماتيكية على الاقتصاد الجزائري حيث سيمر عجز ميزانية الدولة من %1.4 من الناتج القومي الخام في 2013 الى %15.7 سنة 2016. كما أن احتياطي العملة الأجنبية سيمر من قرابة 200 مليار دولار في سنة 2013 إلى 60 مليار دولار سنة 2018.
وستكون هذه الأزمة الاقتصادية وراء السياسات التقشفية التي ستبدأ في تطبيقها مختلف الحكومات منذ 2014 كالحد من الاستثمارات الحكومية وتقليص الدعم على المواد الأولية وعلى الطاقة . وستساهم هذه السياسات الاقتصادية التقشفية في تغذية الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية .
وقد بدأت السودان تتخبط في أزمة اقتصادية كبرى منذ سنوات نتيجة انفصال الجنوب وهبوط مداخيل الدولة من النفط وبفعل الحظر المفروض عليها . وقد طبقت الحكومة نفس السياسات التقشفية والعاملة على التخفيض من مصاريف الدولة خاصة في مجال دعم المواد الأساسية . وقد نتج عن هذه السياسات ارتفاع كبير في الأسعار حيث بلغت نسبة التضخم في
الأشهر الأخيرة للسنة المنقضية حوالي %70.
وسيساهم الارتفاع الجنوني للأسعار في تأجيج الحركة الاجتماعية والاحتجاجات التي بدأت قبل نهاية السنة المنقضية .
لقد لعبت الأزمة الاقتصادية والسياسات التقشفية التي وقع تطبيقها كما كان الشأن بالنسبة للموجة الأولى للثورات الديمقراطية دورا هاما في اندلاع الموجة الثانية في الجزائر والسودان .
أما السبب الثالث وراء اندلاع الموجة الثانية من الثورات والذي مهد كذلك للموجة الأولى فهو تصاعد البطالة خاصة لدى أصحاب الشهائد والتهميش الاجتماعي وعدم المساواة . وقد لعبت هذه العوامل دورا أساسيا في نقض مشروعية الدولة الحديثة والتي لعبت دورا في النهوض والصعود الاجتماعي وكانت وراء ظهور وصعود الطبقات الوسطى والتي أصبحت عمود ونقطة ارتكاز برنامج التحديث السياسي والاجتماعي . وستكون الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وراء تدهور الوضع الاجتماعي والنمو الكبير للبطالة وخاصة بطالة أصحاب الشهادات والتي ستوقف المصعد الاجتماعي . وستكون السياسات الاجتماعية وراء تطور التفاوت الاجتماعي والتهميش .وستلعب مختلف هذه التطورات دورا هاما في تطور الحركة الاجتماعية في الموجة الثانية كما كان الشأن للموجة الأولى من الثورات الديمقراطية وفي انطلاقاتها .
أما السبب الرابع والذي لعب دورا كبيرا في انطلاقة الثورات الديمقراطية فهو تفشي الفساد والمحسوبية بطريقة كبيرة مما جعلها تنخر هياكل ومؤسسات الدولة.
ولعل العامل المشترك بين اغلب الأنظمة العربية هو تدخل الحلقة المصغرة للسلطة وبصفة خاصة عائلات أعلى هرم السلطة في الفساد لتصبح العراب الأساسي للصفقات العمومية ولتفشي الفساد انعكاسات كبيرة على المستوى الاقتصادي اذ يساهم في تردي المردودية والفاعلية الاقتصادية للاستثمارات إلا أن تفشي الفساد له انعكاسات كبيرة على المستوى السياسي وعلى مستوى القيم إذ سينتج عنه تراجع كبير لقيمة العمل لتصبح الوساطات وشبكة العلاقات هي الهدف الأساسي للوصول إلى القرار .
وستساهم هذه الظاهرة وتناميها في حالة من النفور والغثيان أمام السلطة ورموز الفساد ولتعلب دورا كبيرا في تطور وتوسع حركة الاحتجاج وانطلاق الثورات الديمقراطية .
بالرغم من الاختلافات بين التجارب السياسية وخصوصية المسار التاريخي لكل البلدان فإننا نجد تقاطعات ونقاط التقاء في أسباب انطلاق الثورات الديمقراطية بين بلدان الموجة الأولى والثانية وتكمن في انغلاق النظام السياسي والأزمة الاقتصادية والتهميش الاجتماعي وتفشي الفساد والمحسوبية .
ولا تقتصر في رأيي هذه التقاطعات ونقاط الالتقاء في أسباب انطلاق هذه الثورات بل نجدها كذلك في السيرورة التي عرفتها . وهنا يمكن الإشارة الى أربع سمات أو ميزات طبعت هذه الثورات في موجتها الأولى في 2011 او في موجتها الثانية والتي انطلقت في نهاية السنة المنقضية .
السمة الأولى التي ميزت الحراك الاجتماعي في السودان منذ نهاية 2018 وفي الجزائر بداية من مظاهرات الجمعة والتي انطلقت منذ 22 فيفري هو طابعهما الجماهيري والشعبي . فقد نجحت هذه التحركات في توحيد هائل لمختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية في كتلة تاريخية حسب تعبير المفكر والقائد السياسي قرامشي وتمكنت هذه الجماهير من الخروج وتجاوز الخوف والرهبة من السلطة وأجهزتها القمعية من اجل المطالبة بإسقاط النظام. ولعل الظاهرة الهامة هي عفوية هذه التحركات وغياب القيادات السياسية والأحزاب التقليدية والتي ساهمت علاقتها بالأنظمة في تهميشها وشل انغماسها في الحركة الجماهيرية. ولئن لعب هذا الغياب للقيادة السياسية دورا مهما في توحيد الحركة الجماهيرية والاحتجاجات فانه سرعان ما سيطرح غياب الأفق السياسي لتجارب الثورات الديمقراطية.
السمة الثانية لهذه التجارب والتحركات والثورات الجديدة تهم طابعها المدني والسلمي . فالبرغم من محاولة الأنظمة الزج بها في مربع العنف إلا أنها حافظت ودافعت بشدة على طابعها السلمي . وهذه الاستماتة في التمسك بالجانب السلمي تعود في رأيي إلى عاملين مهمين . الأول يخص التجارب التاريخية السابقة لهذه البلدان وبصفة خاصة في الجزائر حيث حكم العنف والسلاح بالفشل على انتفاضة 1988. وتطورت المواجهات بين الحركات الإسلامية والجيش إلى حرب أهلية وصل عدد ضحاياها إلى أكثر من 200 ألف قتيل .
أما العامل الثاني فيخص استفادة الموجة الثانية من تجربة الموجة الأولى حيث عملت الأنظمة على جلب الحركات والثورات والتي كانت سلمية في بداياتها الى مربع العنف والحروب لتكون نهاية هذه التجارب وانسداد آفاقها .
أما السمة الثالثة لهذه التحركات فهي المشاركة الهامة للمرأة لتصبح في السودان الطالبة آلاء صلاح إيقونة الثورة ولتذكر السودانيين بالكنداكة والأميرات النوبيات اللاتي لعبن دورا كبيرا في شحذ عزائم المتظاهرين وعزيمتهم في الصمود والدفاع عن حقوقهم . كما كانت المرأة الجزائرية في الصفوف الأولى للمظاهرات التي جابت شوارع المدن الجزائرية
.وفي هذا الحضور تأكيد على أن رفض الأنظمة السائدة ودولة الاستقلال لا يقتصر على الجوانب الاقتصادية والسياسية بل يهم كذلك الجوانب الجندرية أو النسوية . فاغلب هذه السلط واصلت مع الأسس الأبوية لمجتمعاتنا وعملية التحديث لم تمس وضعية المرأة ولم تسع لإعطائها الحقوق السياسية ولتمتعيها بالمساواة مع الرجل .
وفي مشاركتها الضخمة والسياسية في هذه الموجة الجديدة من الثورات الديمقراطية تؤكد النساء أن عملية التحرير الثانية من الاستبداد لا يمكن أن تقتصر على الحريات السياسية بل يجب أن تطال كذلك الثقافة الأبوية التي هيمنت على مجتمعاتنا وكانت وراء تهميش المرأة في الفضاء العام .
أما السمة الرابعة لهذه الاحتجاجات والتحركات فهي طابعها الاحتفالي فقد عرفت كل هذه المظاهرات طابعا احتفاليا تمكن فيه الفنانون والمبدعون وحتى الناس العاديين من إعطاء فرصة لقطاعاتهم وافكارهم لتعبر بكل حرية . كما عرفت هذه المظاهرات حضورا مهما للنكتة والمزاح الموجه لنقد السلطة واهم رموز الفساد. وشكلت هذه المظاهرات احتفاليات ضخمة مكنت الناس من الخروج من جديد للفضاء العام وإعادة بناء الرابط الاجتماعي في جو فيه الكثير من البهجة والفرح .
اشرنا في هذه المقالة إلى عديد نقاط الالتقاء والتقاطع بين الموجة الأولى لثورات الربيع العربي والموجة الثانية . وقد توقفنا في هذا المجال على هذه النقاط في أسباب الثورات وسيرورتها حيث وقفنا على بعض التقاطعات بالرغم من خصوصية التجارب التاريخية والمسارات السياسية لكل البلدان .
إلا انه بعد دراسة هذه العناصر لابد من الإشارة إلى بعض الدروس التي يمكن لبلدان الموجة الثانية الاستفادة منها من تجارب الموجة الأولى من الثورات العربية . طبعا مازالت هذه البلدان في مخاضاتها الأولى ويصعب التكهن بآفاق تطورها . إلا أن مستوى الاحتجاجات والذي تواصل بالرغم من سقوط رموز السلطة يشير إلى أن هذه العزيمة والإرادة ستفتحان مرحلة حقيقية من التحول الديمقراطي في هذه البلدان . وهنا نود الإشارة إلى أربعة دروس أساسية لتجنب الأزمات التي مرت بها وتعيشها بلدان الموجة الأولى لثورات الربيع العربي . الدرس الأول في رأينا يهم المحافظة على الطابع السلمي والمدني لهذه الانتفاضات لتجنب موجة العنف والحروب التي كانت وراء سقوط وفشل التجارب الأولى للثورات الديمقراطية . الدرس الثاني يهم ضرورة تأسيس الجمهوريات الثانية على أسس دستورية جديدة تضمن الحريات السياسية ومن ضمنها حرية التنظم والتعبير والتعدد. الدرس الثالث يخص العدالة الانتقالية وضرورة توفير الظروف لنجاحها من اجل ضمان انطلاقة جديدة ومصالحة حقيقية بعد المحاسبة . أما الدرس الرابع فيخص ضرورة تحقيق استحقاقات ومطالب الثورات من خلال ضبط وتحديد برنامج اقتصادي واجتماعي يحارب الفساد ويسعى الى تحقيق الاندماج الاجتماعي وإنهاء التهميش .
بالرغم من انتكاسة ثورات الربيع العربي وفشلها في تحقيق الآمال والأحلام التي علقتها عليها الجماهير العريضة التي ساهمت فيها فإن الانتفاضات في الجزائر والسودان تشكل عودة الأمل في التغيير الديمقراطي السلمي والمدني وتفتح من جديد المنطقة العربية على المبادئ الكونية لحقوق الإنسان والديمقراطية والتعدد. وكل ما نتمناه اليوم هو أن لا تعرف هاتان التجربتان نفس الصعوبات والعجز والفشل الذي عرفته التجارب في الموجة الأولى للثورات ليبقى أمل التحول الديمقراطي حيا ونابضا من اجل فتح العالم العربي على المشروع الإنساني العالمي .