المشاريع الكبرى وأزمة الرؤى المجتمعية والطوباويات الكبرى والتي أعطت الأمل والحلم والثقة في المستقبل لشعوب العالم في العقود الأخيرة - وقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تنافسا كبيرا بين ما لا يقل عن ثلاثة مشاريع مجتمعية كبرى وهي: المشروع الشيوعي والذي حمل لواءه الاتحاد السوفياتي والمجموعة الاشتراكية الى حد سقوط جدار برلين والمشروع الاشتراكي الديمقراطي والذي دافعت عنه بصفة خاصة بلدان شمال أوروبا والذي دافع عن تدخل كبير للدولة من أجل بناء مجتمعات عادلة والمشروع الليبيرالي أو الديمقراطي الذي دافعت عنه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من بلدان العالم الحرّ.
وبالرغم من الاختلافات الايديولوجية بين هذه المشاريع الكبرى فإنه يمكن الاشارة الى بعض نقاط الالتقاء بين هذه المشاريع، المسألة الأولى والتي التقت حولها هذه المشاريع هي فكرة التقدم والايمان الراسخ أو حركة التاريخ والمجتمعات البشرية بصفة عامة تسير نحو الأفضل، وهذه القناعة هي نتاج لفلسفة وأفكار الحداثة والتي شكلت أساس هذه المشاريع والايمان بقدرة الانسان على تغيير الواقع لتحسين ظروف عيشه وبناء عالم أفضل. واعتبرت مجمل هذه البرامج والمشاريع أن فكرة التقدم تقود حركة التاريخ نحو مستويات متطورة لتفتح للانسانية والمجتمعات البشرية آفاقا رحبة من التطور والنمو، وقد ساهم هذا الاقتناع في بناء ثقة الناس في المستقبل وشد عزائمهم وطاقاتهم وقدراتهم في البناء والتغيير.
ويمكن أن نشير الى نقطة الالتقاء الثانية بين مختلف هذه المشاريع وهي تهم دور الدولة في الديناميكية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالرغم من الاختلافات وحتى التناقضات بين مختلف هذه المشاريع فانها أعطت للدولة دورا أساسيا ومحوريا في بناء المجتمعات وفي المحافظة على مستوى معين من العدالة للمواطنين.
وكان للدولة دور مهم كذلك في بناء ثقة المواطنين في المجتمعات الحديثة وفي المشاريع الكبرى باعتبارها وفرت لهم الامكانيات والمؤسسات التي مكنتهم من تحقيق مطامحهم وحمتهم أمام الكوارث الطبيعية والمحن والحروب وغوائل الزمن.
لعبت المشاريع الكبرى خلال عقود طويلة دورا أساسيا في حث همم المواطنين وفي بناء ودعم ثقتهم في حركة التاريخ وفي المستقبل، الا أن هذه الثقة ستختل وستتراجع أمام الأزمات وانخرام المشاريع الكبرى ليحل محلها الاحباط والعجز والخوف من المستقبل، ويمكن لنا أن نشير الى عديد الأسباب التي ساهمت في زعزعة هذه القناعات وهذه الثقة في البرامج والمشاريع المجتمعية الكبرى، ولعل أولها هو سقوط جدار برلين وفشل البرنامج الشيوعي الذي جسده الاتحاد السوفياتي منذ الثورة البلشفية سنة 1917، وبالرغم من نقد العديد لهذا المشروع فان هزيمته شكلت ضربة قاصمة للحركة الشيوعية أدت الى تراجع كبير في بريقها وتأثيرها في المشهد السياسي العالمي.
كما ساهمت الأزمان الاقتصادية المتتالية منذ بداية السبعينات في تراجع الثقة في المشاريع الكبرى.
عرف العالم اثر نهاية الحرب العالمية الثانية طفرة اقتصادية وازدهارا لم يعرف له مثيل ولثلاثة عقود متتالية أطلق عليها بعض الاقتصاديين «الثلاثة عقود الذهبية» أو Les Trentes Glorieuses، الا أن هذه المرحلة ستنتهي مع بداية السبعينات ليدخل العالم مرحلة جديدة من عدم الاستقرار الاقتصادي والأزمات المتتالية لهلّ آخرها الأزمة المالية لسنوات 2008 و2009 والتي كادت أن تعصف بالنظام الاقتصادي العالمي، ولئن نجحت الدول الكبرى بدعم من البلدان الصاعدة والمؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية في تجاوز مخاطر انهيار النظام العالمي فإن الاقتصاد لم يسترجع عافيته ولم يتمكن من العودة لمستويات النمو الكبرى التي عرفها في السابق، وقد ساهمت هذه الأزمات الاقتصادية المتتالية في تراجع الثقة عند المواطنين في قدرة الأنظمة الكبرى والبرامج والمشاريع المجتمعية على بناء غد أفضل.
والى جانب الأزمات الاقتصادية ساهمت القضايا الاجتماعية في أزمة الثقة وفي الاحباط والخوف من المستقبل الذي يسود العالم اليوم، لقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تطورا هاما على المستوى الاجتماعي مع تطور التشغيل لحد وصول البطالة الى أدنى مستوياتها والتأكيد على التعاون والتكافل بين الأجيال من خلال الأنظمة الاجتماعية والصناديق التي ساهمت في تمتع المواطنين بحاجياتهم الأساسية كالصحة، وقد كانت العدالة والمساواة الاجتماعية العامل الأساسي للدول والمشاريع الكبرى من خلال سياسات اعادة توزيع الثروة والجباية المطبقة على الأثرياء وأصحاب المداخيل العليا، وقد جعلت هذه السياسات الجانب الاجتماعي الركيزة الأساسية لهذه المجتمعات والأنظمة السياسية الحديثة مع اختلافاتها.
الا أن هذه الأولوية للعدالة والمساواة الاجتماعية ستغيب مع انتصار النيوليبيرالية منذ بداية الثمانينات لتفتح الباب على مصراعيه للسوق وآلياته ولتتراجع الدولة عن دورها التعديلي والذي ساهم بصفة كبيرة في كبت جماح الجوانب السلبية للمجتمعات الرأسمالية، وكان لهذا التغيير في السياسات العامة انعكاسات كبيرة ومباشرة على الجانب الاجتماعي حيث عرفت أغلب المجتمعات تطورا كبيرا للبطالة والتهميش الاجتماعي، الا أن ظاهرة التفاوت الاجتماعي وتنامي الفوارق الاجتماعية ستكون الظاهرة الأهم والتي ستلعب دورا أساسيا في تراجع ثقة الناس في البرامج الكبرى وفي الأنظمة الديمقراطية.
ولم تقتصر هذه الأزمات على الجوانب الايديولوجية والاقتصادية والاجتماعية بل شملت كذلك الجوانب السياسية مع تراجع مخزون الثقة في الأنظمة الديمقراطية وفي التمثيلية التي تعتمدها، فقد عرفت الانتخابات عزوفا كبيرا، كما شهدت الأحزاب الديمقراطية الكبرى تراجعا هاما في تأثيرها وفي تواجدها، وفي المقابل عرفت الحركات المناهضة للنظام الديمقراطي والحركات الشعبوية نموا كبيرا حيث أصبحت تشكل تهديدا كبيرا للأنظمة الحديثة ولركائزها ومن ضمنها الديمقراطية التمثيلية.
لعبت هذه العوامل دورا كبيرا في الأزمة الكبرى التي يعرفها العالم وفي تراجع المشاريع والرؤى والطوباويات الكبرى وساهمت هذه الأزمة في حالة الخوف من المستقبل وتراجع ثقة الناس في قدرتهم على تغيير الواقع نحو الأفضل وتحسينه.
وقد ساهمت عديد العوامل الأخرى في تراجع المشاريع الكبرى وهيمنة حالة الاحباط التي نعيشها اليوم، ومن ضمن هذه العوامل نريد الاشارة الى تأثير فكرة «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكوياما، فمنذ ظهورها في بداية التسعينات اثر سقوط جدار برلين ستلعب هذه النظرية دورا كبيرا في غلق باب الممكن في الفكر والممارسة السياسية في البلدان الديمقراطية، فقد هيأت هذه النظرية العالم للقبول بالأمر الواقع واعتبار ان الديمقراطية التي نعيشها اليوم وبالرغم من مساوئها هي من أحسن النظم السياسية التي يمكن أن نطمح اليها، وبالتالي فإن دور العمل السياسي يقتصر اليوم على ادخال بعض التحسينات على هذا النظام دون محاولة الدخول في مغامرة تغييره.
ولم يقتصر نقد المشاريع الكبرى على جانب الفكر السياسي بل شمل كذلك الجانب الفلسفي فقد كان أنصار أفكار وفلسفة ما بعد الحداثة ضربة قاصمة للمشروع الحداثي وللمشاريع الكبرى التي عرفها العالم، وقد وجهت أفكار ما بعد الحداثة سهام نقدها لهذه البرامج واعتبرتها وراء الأزمات الكبرى التي عرفها العالم من حروب ومآس باعتبارها أعطت للانسان الاعتداد بالنفس وروح الهيمنة على الآخر ومسك الطبيعة وتطويعها لأهوائه ومصالحه، ونادت هذه التيارات المابعد حداثية لضرورة الخروج من المشاريع الكبرى والفكر التسلطي الذي تحمله وتروج له.
كما ساهم الفكر الاجتماعي في تراجع محاولات البحث على الأفكار والمشاريع الكبرى وأصبحت الدراسات والبحوث السوسيولوجية تقتصر على قراءة وفهم الظواهر الاجتماعية المحددة دون محاولة بناء نظريات أو أنساق فكرية كبرى.
عشنا اذن لعقود متتالية على فكرة نهاية التاريخ وانتفاء المشاريع الكبرى، وقد ساهم هذا الاحباط وأزمة الطوباويات الكبرى في حالة الخوف من المستقبل وأزمة الثقة في القادم التي نعيشها اليوم.
إلا أن هذه الأزمة ولدت كذلك عديد المحاولات لبناء مشاريع جديدة ولاحياء فكرة التقدم وقدرة الانسان على تغيير واقعه نحو الأفضل، وما يجمع هذه المحاولات هو ايمان راسخ بقدرة الانسانية على تحقيق العدالة والتقدم الاجتماعي من خلال نظرة شاملة ومتكاملة للعالم الآتي وتشكل أفكار الحرية والعدالة الاجتماعية وحماية مناخ الركائز الأساسية لهذه المحاولات والبرامج الجديدة.