ضغوطات الحياة اليومية والسرعة الكبيرة التي تميز مجتمعاتنا مع ظهور التكنولوجيات الحديثة مما أضفى على الحياة اليومية إيقاعا ونمطا مرتفعا لا نقدر في عديد الأحيان على مواكبته . وينتج هذا الخوف من عدم قدرتنا على النجاح في هذا العالم المتغير الكثير من الاضطرابات النفسية وحالة من القلق والاكتئاب قد تؤدي في بعض الأحيان إلى حالة السكيزوفرانيا أو انفصام الشخصية . ويشير الخبراء إلى الأمراض الكثيرة لهذا المرض ومن ضمنها التضارب في المواقف وغياب التجانس في قراءة الأوضاع وتحليلها واخذ القرارات الضرورية .
والمتتبع للوضع الاقتصادي وبصفة خاصة للسياسات الاقتصادية في بلادنا لا يمكن له إلا أن يفكر في هذه الظاهرة وانفصام شخصية القرار الاقتصادي نظرا للتضارب الكبير بين أهم عناصر هذه السياسات – وهذا التوجه وعدم التجانس بين أهم مكونات السياسة الاقتصادية ليس بالجديد في بلادنا إلا انه تأكد في الأشهر الأخيرة ليصبح الميزة الأساسية للقرار الاقتصادي وللسياسات العمومية في هذا المجال . فلئن حافظت السياسة المالية على منحاها التوسعي والذي اتبعته منذ السنوات الأولى للثورة من خلال الترفيع في ميزانية الاستثمار العمومي فإن السياسات النقدية عرفت تغييرا جذريا في الأشهر الأخيرة والخروج من المنحى التوسعي والدخول في سياسات أكثر صرامة من خلال الترفيع في نسب الفائدة المديرية . ويشكل هذا التضارب والتناقض في أهم مكونات السياسة الاقتصادية تحديا كبيرا لم يساهم في رأينا في دفع النمو والاستثمار كما أشارت له الأرقام الأخيرة والنتائج التي نشرها معهد الإحصاء وعديد المؤسسات الأخرى .
وقد أشارت القرارات الأخيرة للبنك المركزي وخاصة الترفيع بـ100 نقطة في نسبة الفائدة المديرية إلى هذا التضارب من جديد وغياب التجانس في الاختيارات الكبرى والنظرة للسياسة الاقتصادية. ونريد هنا أن نؤكد ونشير إلى مبدإ التجانس والتماسك والارتباط بين مختلف مكونات وعناصر السياسة الاقتصادية من اجل تدعيم مردودية وفعالية السياسات العامة .
لكن قبل الخوض في هذه المسألة سنعود إلى الوضع الاقتصادي لتقديم أهم مميزاته وخصوصياته كي نناقش قدرة القرارات الأخيرة والسياسة الاقتصادية بصفة عامة على تحسينه وتغييره والخروج به من الواقع المتردي الذي نعيشه منذ سنوات .المسألة الأولى التي نريد التوقف عندها في هذا المقال تخص وضع النمو وتواصل الهشاشة والضعف اللذين ميزاه في
السنوات الأخيرة . وتشير الأرقام الأخيرة لمعهد الإحصاء إلى ان مستوى النمو كان بـ%2.5 في سنة 2018.وهذه النسبة هي اقل من التوقعات التي وضعتها الحكومة في قانون المالية لسنة 2018 والتي بلغت %3.
إلا انه في رأيي فإن نتائج النمو للسنة المنقضية تطرح مسألتين هامتين إلى جانب هشاشته .المسألة الأولى تهم تراجعه على مدى السنة مما يشير إلى عجز السياسة الاقتصادية على تدعيمه وتقويته أمام التحديات الكبرى التي تعيشها بلادنا. فلئن كان الثلاثي الأول ايجابيا حيث بلغ مستوى النمو %1.2 مقارنة بالثلاثي الأخير لسنة 2017 فإنه سرعان ما بدا في التراجع ولم يحافظ على نسق تصاعدي ليكون مستواه %0.2 في الثلاثي الرابع.
المسألة الثانية والهامة في قراءتنا لمستوى النمو تخص محركاته . وهنا لابد من الإشارة إلى الدور المركزي والرئيسي الذي تلعبه الفلاحة مقارنة بالقطاعات الأخرى كالصناعات المعملية والتي شكلت لفترة طويلة أساس نمط التنمية في بلادنا ومكنتنا من الخروج من نمط التنمية التقليدي والموروث من الفترة الاستعمارية فقد عرفت نسبة نمو القطاع الفلاحي مستوى %9.8 خلال السنة المنقضية . بينما بقيت نسبة نمو الصناعات المعملية مستقرة ولم تتجاوز %0.3.
تمكننا هذه الأرقام والملاحظات من ضبط السمة الأساسية للنمو في السنوات الأخيرة والذي تميز بهشاشته وضعفه. كما أن السياسات الاقتصادية عجزت عن تقوية عوده ودفعه. فقد عرفت اغلب السنوات الأخيرة بدايات ايجابية للحركة الاقتصادية إلا أن هذه البوادر سرعان ما تراجعت وتلاشت لتترك مكانها للوهن والضعف الذي سيصيب الإنتاج والديناميكية الاقتصادية في الجزء الثاني من السنة . أما الجانب الثالث والمهم إلى جانب هشاشة النمو وتراجعه بعد بدايات مشجعة فيخص ارتباطه بالقطاعات التقليدية وخاصة القطاع الفلاحي وتراجع قطاعات الصناعات المعملية وهو في رأيي مؤشر هام على حالة الانتظار والترقب التي تغلب على المؤسسات الخاصة وتراجع الاستثمار .هذه النتائج وهشاشة النمو ستكون لها انعكاسات مباشرة على التشغيل وعلى نسب البطالة .
فقد بلغ عدد العاطلين عن العمل في نهاية الثلاثي الرابع لسنة 2018 مستوى %15.5 ليبقى في مستويات مرتفعة ومستقرة مقارنة بالسنتين الأخيرتين 2017 و2016 مما يؤكد أن هشاشة النمو وكذلك السياسات النشيطة لم تنجحا في دفع التشغيل وخلق ديناميكية جديدة في هذا المجال . وتبقى بطالة النساء (%22.9) في مستويات مرتفعة إذ قارناها ببطالة الذكور (%12.5).
ولئن عرفت بطالة أصحاب الشهائد تراجعا فإنها بقيت في مستويات عالية جدا لتصل إلى %28.8 في نهاية 2018.
إلى جانب هشاشة النمو وبقاء البطالة في مستويات عالية فإن السمة الثالثة الهامة للوضع الاقتصادي تهم ارتفاع الأسعار وانفلات التضخم من عقاله خلال السنة المنصرمة. وتشير النتائج التي نشرها معهد الإحصاء إلى أنه وبالرغم من تراجع نسبة التضخم في شهر جانفي 2019 مقارنة بشهر ديسمبر فإنها بقيت في مستوى مرتفع. فقد وصلت نسبة التضخم إلى %7.1 في نهاية شهر جانفي 2019. والى جانب مستوى التضخم فان المسألة الهامة تخص مجموعات المواد التي بقيت في مستويات مرتفعة.وهنا لابد من التأكيد على بعض المواد التي لعبت دورا هاما في بقاء التضخم في مستويات عالية . وأولها أسعار ومواد النقل والتي سجلت ارتفاعا تجاوز %10 والذي يعود إلى ارتفاع أسعار السيارات وأسعار كلفة استعمالها وأسعار خدمات النقل . إلى جانب النقل لابد من الإشارة إلى تطور نسق الارتفاع بالنسبة للمواد الغذائية والتي وصلت إلى مستوى %7.1 والملابس والأحذية %9.4 والأثاث والتجهيز المنزلي %9 والمطاعم والنزل %8.6. هذه القراءة السريعة في أرقام التضخم تؤكد أن ارتفاع الأسعار مرتبط في الجزء الأساسي والرئيسي منه بالمنتوجات المرتبطة بالسوق الداخلية وبالتالي بالطلب وبمسالك التوزيع . أما الجزء الآخر فيعود إلى المواد المستوردة خاصة في ميدان النقل ويرجع بالتالي إلى التضخم المستورد من جراء تدهور الدينار.
ولنكمل هذه النظرة للوضع الاقتصادي لابد من التوقف عند مكمن آخر لتراجع وتدهور الأوضاع ويهم التجارة الخارجية. فقد أشارت النتائج التي نشرها معهد الإحصاء إلى تحسن الصادرات بنسبة %21.9 في شهر جانفي 2018 مقارنة بالنسبة الفائتة لتبلغ قيمة الصادرات 3.8 مليار دينار . إلا ان الواردات عرفت نسق نمو اكبر وصل إلى %24 لتبلغ قيمتها 5.3 مليار دينار . وقد نتج عن هذه التطورات نمو كبير للعجز التجاري الذي بلغ رقما قياسيا قدر بـ1.5 مليار دينار في شهر جانفي 2019.
تبرز هذه المعطيات أهم سمات الأزمة الاقتصادية في بلادنا في السنوات الأخيرة حيث تلتقي هشاشة النمو مع انفلات التضخم وتردي التشغيل وتصاعد البطالة مع انخرام الميزان التجاري . ويعرف الاقتصاديون هذه الأزمة بأزمة الركود والتضخم أو stagflation والتي عاشتها عديد البلدان في ظروف تاريخية معينة . ويتميز هذا النوع من الأزمات بارتباط ظاهرتي النمو الضعيف بالتضخم . وتغذي كل ظاهرة الأخرى لتساهم في تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية .
وقد أثبتت الدراسات الاقتصادية لعديد التجارب في الكثير من البلدان عجز السياسات الاقتصادية التقليدية والجزئية في الخروج من هذه الأزمات وتجاوزها . فالسياسات المالية التوسعية تغذي التضخم من جهة وفي نفس الوقت فان السياسات النقدية التقشفية تساهم في تغذية الركود الاقتصادي وتردي الأوضاع الاجتماعية .
والسؤال الذي نود الإجابة عنه يخص قدرة السياسات الاقتصادية المتبعة في بلادنا وبصفة خاصة التغيير الجذري في السياسة النقدية والترفيع غير المسبوق في نسب الفائدة على الخروج من الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعرفها بلادنا منذ مدة قرر مجلس إدارة البنك المركزي في اجتماعه بتاريخ 19 فيفري 2019 الترفيع في نسبة الفائدة المديرية بـ100 نقطة لتمر من 6.75% إلى -%7.75 ويشكل هذا القرار تواصلا في التغيير الجذري الذي عرفته السياسة النقدية وتشديدها والخروج نهائيا من السياسات التوسعية التي كانت سائدة منذ 2011.
وقد برر البنك المركزي هذا القرار بضرورة وضع حد لارتفاع التضخم والضغط على العجز الكبير في الميزان التجاري. وقد أثار هذا القرار الكثير من الجدل بين الفاعلين الاقتصاديين . فاصدر الاتحاد العام التونسي للشغل بيانا أكد فيه على خطورة هذا القرار وانعكاساته السلبية على المقدرة الشرائية . وأشار بيان الاتحاد إلى أن هذا القرار لن يساعد في تجاوز الأزمة الاقتصادية وسيكون له مفعول سلبي على الزيادات الأخيرة في الأجور ومن جهته أكد اتحاد الصناعة و التجارة أن هذا الترفيع ستكون له انعكاسات سلبية على المؤسسات الاقتصادية ولن يساعد في دفع الاستثمار .
ولم يقتصر الجدل على المنظمات الاجتماعية بل شمل كذلك الساحة السياسية . فقد نددت عديد الأحزاب السياسية بهذا القرار واعتبرته نتيجة لضغوطات المؤسسات الدولية وبصفة خاصة صندوق النقد الدولي .
وقد طالب نواب الشعب بمساءلة محافظ البنك المركزي وتقديم توضيحات شافية لتفسير هذا القرار .
وسنحاول في هذا المقال التعرض إلى هذا القرار والسياسة النقدية الجديدة من ثلاث زوايا مختلفة : قدرتها على وضع حد للظاهرة التضخمية والعجز التجاري ، علاقته بالسياسة المالية علاقته بالفكر والتحاليل الاقتصادية .
بالنسبة للجانب الأول أي قدرة التغيير الجذري في السياسة المالية والترفيع المتواصل في نسب الفائدة على الحد من التضخم وإيقاف لهيب الأسعار فإن التحاليل اختلفت وتناقضت . وأشارت الورقة التي قدمها البنك المركزي إلى أن هذا الترفيع ضروري لإيقاف التضخم ولهيب الأسعار من جهة والحد من العجز التجاري من جهة ثانية . وقد أثارت هذه القراءة الكثير من الجدل حول أسباب ومصادر التضخم وأعرب الكثير من الخبراء عن شكهم في أنها تعود إلى الجانب النقدي وبالتالي قدرة السياسة النقدية على إيقاف لهيب الأسعار . وفي رأيي فإن الورقة النقدية التي قدمها البنك المركزي لتفسير وتبرير قراره الأخيرة تبقى محدودة إن لم نقل سطحية . ولا بد لنا أن نؤكد على ضرورة القيام بدراستين
جديتين : الأولى تهم أسباب ومصادر التضخم في بلادنا أما الثانية فتخص تأثير السياسة المالية والتغييرات الجذرية التي شهدتها في الأشهر الأخيرة على التضخم. وفي غياب هاتين الدراستين فإن الحديث عن العلاقة بين التضخم والسياسة المالية تبقى من قبيل الجدل الذي لا يغني ولا يسمن من جوع .
أما الثابت فهو التأثير السلبي لهذه السياسة المالية الجديدة على ثلاثة فاعلين اقتصاديين أساسيين . الأول هو بطيعة الحال العائلات الحاصلة على قروض وبصفة خاصة الطبقات الوسطى . وسيكون لهذا الترفيع تأثير سلبي باعتباره سيثقل من كاهلهم باعتبار التطور الكبير لتسديد القروض .كما سيكون لهذا الترفيع انعكاس كبير وسلبي على المؤسسات الصناعية والتي إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه التكلفة إلى جانب تراجع الدينار فإنها ستواصل في نفس المنحى ألانتظاري ولن تمر إلى الاستثمار . كما سيكون لهذا القرار تأثير مزدوج على الدولة من حيث سيساهم في الترفيع في مصاريف تسديد دينها الداخلي وسيساهم من جهة ثانية في تراجع مداخيلها نتيجة الركود الذي سيصيب الاقتصاد.
لا نريد في هذه المساهمة التقليل من أهمية التوسع النقدي في التضخم وارتفاع الأسعار . إلا أننا نعتقد أن إتباع السياسات النقدية التقليدية والتي صاغتها مدرسة اقتصادية وهي التيار النقدي أو l’école monétariste أو مدرسة شيكاغو والتي تجاوزها الزمن قادرة على إيقاف التضخم والعودة إلى التوازن في هذا المجال .فكما اشرنا فإن الانعكاسات السلبية لهذه السياسة على مستوى النمو تجعلنا نتخبط في الحلقة المفرغة لأزمة الركود والتضخم بدون أن نتمكن من الخروج من أي منهما.
لقد أشار التفكير الاقتصادي الحديث والتجارب في عديد البلدان على ضرورة الخروج من هذه السياسات والبحث عن إجابات غير تقليدية وجديدة للخروج من أزمة الركود والتضخم (stagflation) وقد اثبت البنك المركزي في بلادنا في السنوات الأخيرة قدرته على ابتكار الحلول الجديدة في عديد المجالات ومن ضمنها مثلا في التعاطي مع طلب السيولة من البنوك . إلا انه في هذه المسألة تراجع عن هذا المبدأ لينخرط في السياسات التقليدية التي أثبتت عدم نجاعتها . والذي نأمله في المستقبل هو أن يواصل البنك المركزي البحث عن الحلول الجديدة وابتكار الآليات العملية والبعيدة عن دوغمائية التيارات الفكرية المهيمنة والابتعاد عن الحلول الجاهزة والسهلة التي تحاول بعض المؤسسات الدولية فرضها .وقد أشرت في بعض
المقالات إلى بعض الأفكار كفتح المجال لاختيار بين نسبة الفائدة الثابتة والمتغيرة حتى لا يتحمل المواطن أو المؤسسة مخاطر تغيير نسب الفائدة . كما يمكن أن نشير إلى دعم الفائدة الموجهة للاستثمار لا من قبل ميزانية الدولة كما يشير البعض بل من قبل البنك المركزي من خلال إحداث نسب فائدة خصوصية موجهة إلى الاستثمار . كما يمكن أن نفكر في توسع مالي أو Quantitative esaing كما قامت به اكبر البنوك المركزية في العالم من اجل دفع الاستثمار . هذه بعض الأفكار والآراء والتي اعتقد أن خبراءنا الماليين في البنك المركزي وفي مؤسسات المالية قادرون على تحويلها إلى برامج عملية وسياسات جديدة قادرة على تحقيق الاستقرار النقدي والمالي في بلادنا . وهذه المقترحات تفتح دروبا ليست بالسهلة لكنها قادرة على الخروج من الحلول التقليدية التي أثبتت محدوديتها وعدم نجاعتها .
المسألة الثانية والتي جعلتني أتحدث عن سكيزوفرانيا سياساتنا الاقتصادية تهم العلاقة بين السياسة المالية والسياسة الاقتصادية . إن المبدأ الأساسي في السياسات الاقتصادية يهم تجانس وتكامل عناصرها وبصفة خاصة السياسة المالية والنقدية وسياسة الصرف . فهذا التكامل والتجانس في التوجهات والاختيارات الكبرى يزيد من فاعلية ومردودية السياسة الاقتصادية ويمكنها من تحقيق أهدافها.
فإذا كان منحى السياسة الاقتصادية تقشفيا فيجب على السياسة المالية أن تحد من مصاريف الدولة . كما يجب على السياسة النقدية أن تواكب هذا المنحى وتسن سياسة فائدة صارمة . أما إذا كان منحى السياسة الاقتصادية توسعيا يهدف إلى دفع النمو فيجب على السياسة المالية أن تدفع بمصاريف الدولة واستثماراتها . كما يجب على السياسة النقدية أن تأخذ نفس التوجه من خلال التقليص من نسب الفائدة لدفع الاستثمار والاستهلاك.
ولئن عرفت السياسة المالية والنقدية التجانس والتكامل المرجو في السنوات الأولى للثورة فإن هذا التوجه سرعان ما تغير لتصبح كل واحدة منهما في واد. فالسياسة المالية واصلت على منحاها التوسعي من خلال الترفيع في ميزانية الدولة ودفع الاستثمار العمومي إلى مستويات قياسية وتقديم عديد التسهيلات والتمويلات لدفع الاستثمار الخاص بينما أخذت السياسة النقدية توجها مختلفا إن لم نقل مناقضا من خلال التوجه إلى سياسة أكثر صرامة في محاولة يائسة لكبح جماح التضخم.
وفي رأيي فإن هذا التردد بين السياستين واهم عنصرين للسياسة الاقتصادية كان وراء تذبذب وضعف نتائجنا الاقتصادية وهشاشة النمو. وهذه المسألة تطرح قضية مؤسساتية ذات أهمية قصوى في بلادنا وهي غياب الإطار الذي يقع فيه تحديد والاتفاق على الاختيارات الاقتصادية الكبرى ليقع تطبيقها من كل الأطراف في مجال اختصاصهم.
وفي اكبر البلدان الديمقراطية نجد هذه الأطر والمؤسسات والتي يكون البنك المركزي عضوا فيها بالرغم من استقلاليته والتي تساهم في توحيد الرؤى والتوجهات الاقتصادية الكبرى .
المسألة الثالثة والأخيرة والتي نريد الوقوف عندها تخص التفكير الاقتصادي في بلادنا وبصفة خاصة هيمنة الفكر الأوحد (la pensé unique) والذي يفرض سياسات اقتصادية موغلة في التقليد والمحافظة .لقد عرف التفكير الاقتصادي خاصة بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى لسنوات 2008 و2009 ثورة كبيرة هزت أسسه التقليدية وكانت وراء تراجع السياسات الدوغمائية .
وفتحت هذه الثورة الفكرية مجالات البحث والتفكير في سياسات اقتصادية جديدة تتسم بالواقعية والبراقماتية وبعيدة كل البعد عن الجمود العقائدي الذي طبع الفكر الأوحد والمهيمن .وفي رأيي لابد لنا أن نتخلص من هذه الهيمنة وان نربط تفكيرنا الاقتصادي بالتيارات والأفكار الجديدة الصاعدة . وهذا التجديد في فكرنا الاقتصادي سيساعدنا ويوسع لنا الطريق لضبط وابتكار سياسات جديدة قادرة على الخروج بنا من أزمتنا الاقتصادية وتعبيد مسار التحول الاقتصادي .
تعيش بلادنا منذ سنوات على وقع أزمة اقتصادية كبيرة لم نعرفها في السابق وقد ساهمت سكيزوفرانيا سياساتنا الاقتصادية وعدم وضوحها وتذبذب اختياراتها في تعميق هذه الأزمة وانسداد الأفاق .
وللخروج من هذه الأزمة لابد لنا من التحلي بالشجاعة والقدرة على الخلق والعزيمة لابتكار إجابات جديدة قادرة على الخروج بنا إلى بر الأمان وتدعيم التحول السياسي بتحول اقتصادي يجعل من بلادنا ومن اقتصادنا قطب صعود (pole d’émergence) في السنوات القادمة .