أو البريد الدولي الصادرة في باريس في تبوؤ مكانة هامة على الساحة الفكرية والصحفية. وترتكز هذه الأسبوعية والتي أصبحت اليوم ملكا للمجموعة التي تصدر صحيفة le Monde الفرنسية على ترجمة ونشر مقالات لما يقارب 1500 صحيفة صادرة في مختلف أنحاء العالم – والهدف من هذا العمل الصحفي الهام هو التعرف على نظرة الآخر للمجتمع الفرنسي بصفة خاصة والمجتمع الغربي بصفة عامة – فتجد في هذه الأسبوعية ترجمات في كل المجالات من الثقافة والسياسة والاقتصاد والمجتمع والفكر من كل صحف العالم ومن كل بلدانها – ويعطي محررو وصحافيو هذه الأسبوعية في الترجمة الأولوية للمقالات التي تقوم بقراءة وتحليل ونقد النظرة الغربية للعالم .وقد دأبت على مطالعة هذه الأسبوعية بطريقة منتظمة منذ صدورها لمتابعة تصورات الآخر وقراءاته للتجربة التاريخية التي نحن بصددها – ولقد شد انتباهي عدد الأسبوع المنقضي والذي خصص ملفا خاصا لقضية نظرة الآخر للغرب – وقد جاء هذا الملف دسما وغنيا وشمل عددا مهما من المقالات أتت من كتاب مؤثرين من جهات وبلدان مختلفة منها الصين وروسيا وإفريقيا الجنوبية وبعض بلدان أمريكا اللاتينية و كان بالتالي شاملا ويعطي رؤية مهمة لقراءة الآخر للغرب .
واثر قراءة جملة المقالات التي أثثت هذا الملف يمكن الخروج بخمس ملاحظات حول صورة الغرب عند الآخر – الملاحظة الأولى تهم تحديد محتوى وتعريف مفهوم الغرب ورفض التعريف الكلاسيكي الجغرافي لهذا العنصر الأساسي في العلاقات الدولية في تاريخنا المعاصر . فالغرب عند العديد من مفكري الجنوب ليس منطقة جغرافية بل هو محتوى سياسي واقتصادي واجتماعي بالأساس – وقد بدأ استعمال مفهوم الغرب في العصر الوسيط للتمييز بين العالم الكاثوليكي والعالم الاورتوذكسي والعالم الإسلامي . وسيتطور مفهوم العالم الغربي في القرن التاسع عشر ليصبح مفهوما سياسيا وجيواستراتيجيا ويشمل القوى الأوروبية والأمريكية التي اعتبرت نفسها وريثة العالم اليوناني والروماني في العصر الوسيط وحاملة فلسفة الأنوار والحداثة – اثر الحرب العالمية الثانية سيأخذ الغرب مفهوما إيديولوجيا ليشمل قوى «العالم الحر» والمناهضة للشيوعية والأنظمة الاشتراكية التي يقودها الاتحاد السوفياتي إلى حد سقوط جدار برلين – إذن الغرب والعالم الغربي ليسا مفهومين محايدين كما تسوق لهما عديد القوى والمؤسسات السياسية الغربية – بل هما مفهومان يحملان شحنة إيديولوجية وسياسية
كبيرة ويشيران إلى مجمل القوى التي سيطرت على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهيمنت على البلدان المستعمرة في العالم الثالث . وقد عبر الغرب لعقود طويلة عن قوى الهيمنة الاستعمارية على العالم ومعادة نضالات الشعوب ضد الهيمنة ومن اجل الانعتاق والتحرر . وقد تمكنت الحركات الوطنية من الصمود في وجه هذه الهيمنة والتصدي لها وساهمت بالتالي منذ بداية الستينات في أفول وتراجع أسطورة الغرب .الملاحظة الثانية تهم ما يسميه عديد المفكرين من البلدان الصاعدة كالصين وروسيا وإفريقيا الجنوبية تنامي النظرة التحريفية (révisionniste) للعلاقات الدولية وبصفة خاصة لأسس النظام العالمي الموروث عن صلح وستفالي Westphalie .وهذه النظرة قادت السياسة الدولية منذ قرون وهي ترتكز على مبدئين أساسيين الأول هو مبدأ السيادة الوطنية والثاني هو مبدأ رفض التدخل الأجنبي في الدولة الوطنية . وقد ضرب الغرب بهذه المبادئ عرض الحائط منذ تسعينات القرن الماضي حسب هذه التحاليل ليصبح التدخل في شؤون الغير ومحاولة الهيمنة واستعمال القوة هي القاعدة – وقد شكلت حربا الخليج مثالا صارخا لهذه النظرة التحريفية للمبادئ الموروثة من صلح
وستفالي وجنوح الغرب وبصفة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية للقوة والتدخل المباشر والساخر في شؤون الدول الأخرى – وقد تواصلت هذه النظرة الى يومنا هذا في عديد مناطق الصراع كسوريا وأخذت أشكالا جديدة كالقصف بالطيران وتسليح أطراف الصراع وتقديم الدعم لها .إذن شهد العالم خروجا عن مبادئ الحياد وعدم التدخل في شؤون الغير والتي شكلت القاعدة الأساسية التي قامت عليها العلاقات الدولية والنظام الدولي منذ نهاية تسعينات القرن الماضي – وقد انتقل الغرب في هذه الفترة من مرحلة الهيمنة الناعمة إلى مرحلة جديدة تغلبت فيها القوة المباشرة والتدخل العنيف .
الملاحظة الثالثة والتي تشير إليها اغلب التحاليل والقراءات القادمة من الجنوب تشير إلى رفض الغرب لفكرة التعدد ومبدإ إعطاء مكان اكبر الآخر وبصفة خاصة للبلدان النامية في العلاقات الدولية وفي المؤسسات الكبرى التي تدير شؤون العالم – فقد بقيت مطالب بلدان الجنوب بإصلاح الأمم المتحدة وبصفة خاصة مجلس الأمن بدون رد – أما فيما يخص المؤسسات الاقتصادية العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ولئن وافق الغرب بصفة خاصة اثر الازمة المالية العالمية والتي قادت العالم إلى حافة الانهيار على ضرورة إصلاحها وإعطاء دور اكبر في داخلها للبلدان النامية فان هذه الإصلاحات بقيت في الممارسة اليومية محدودة وغير ذات بال . وقد دفع هذا التهميش بعض البلدان كالصين إلى خلق مؤسسات بديلة كبنك الاستثمار في المشاريع الكبرى وفي البنية التحتية .
الملاحظة الرابعة التي يمكن الوقوف عليها في خصوص نظرة الآخر للغرب ولأسسه الفكرية والفلسفية وبصفة خاصة لفلسفة الأنوار والحداثة التي شكلت النظرة الإيديولوجية للعالم . لقد قام العديد من الكتاب والمفكرين بنقد ما اعتبروه غطاء إيديولوجيا ومبادئ لم يحترمها الغرب في تعاطيه وتعامله مع الآخر – ففي الوقت الذي كان فيه الغرب ينادي بمبادئ الحرية والتعدد انطلق في القرن التاسع عشر في حملاته الاستعمارية وفي تنفيذ مشاريع هيمنته على العالم والتي صاحبتها نظرة دونية للآخر نفت عنه حقوقه السياسية والاقتصادية لتجعل منه وقودا لحروبه الاستعمارية ولنهب خيرات البلدان التابعة له – وقد أكد عديد المحللين على ضرورة الأسس الفلسفية وفكر الحداثة على تجربة الآخر وأن لا تبقى حبيسة فكر الآخر والتجربة السياسية للغرب.
الملاحظة الخامسة التي يكمن الوقوف عليها تخص الأزمة التي تمر بها اليوم اغلب البلدان الغربية والتي كانت وراء تراجع دورها على المستوى العالمي وحتى الانطلاق في حروب تجارية كالتي بدأها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب . ولم تعد البلدان الغربية والقوى العظمى التقليدية تحمل نظرة او برنامجا يسعى إلى إعادة بناء العلاقات الدولية وعالم جديد. وتعتبر الصين البلد الوحيد الحامل لمشروع عالمي اليوم وهو مشروع طريق الحرير .
في النهاية نشير إلى ان صورة الغرب عند الآخر اليوم ومن هذه القراءات والتحاليل ليست بالوردية بل بالعكس فهي تحمل الكثير من القتامة والسوداوية . وتحمل كذلك نظرة الآخر للغرب الكثير من الخوف والقلق لان الأزمة التي تعيشها هذه البلدان والقوى العظمى الكلاسيكية تدفعها إلى المزيد من الهيمنة والغطرسة واستعمال القوة لإشعال نار الحروب والفتنة .وفي هذا العالم المتأزم والمليء بالمخاطر والصعوبات والتحديات فان الحل الوحيد يكمن في تخلي الغرب عن غطرسته ونزوعه الطبيعي والتاريخي للهيمنة والبدء بطريقة جدية من خلال نقاشه مع الآخر في إعادة بناء عالم جديد وعلاقات دولية جديدة تحترم التعدد وتسعى إلى التأكيد على مبادئ التعاون والتآخي والسلم العالمي . وهذا المشروع هو وحده الكفيل بإعطاء صورة اقل قتامة وأكثر ايجابية للغرب عند الآخر .