شوان لاي Zhou Enlai احد قادة الثورة الصينية إلى جانب ماوتسي تونع الى وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر لما سأله في بداية السبعينات اثر التقارب الصيني الأمريكي عن رأيه في الثورة الفرنسية .أجاب القائد الصيني بالهدوء الذي يميز القادة الصينيين « انه من المبكر الحديث عن انعكاسات الثورة الفرنسية «
أثار هذا الرد عندي الكثير من الاستخفاف وحتى الثورة فكيف يمكن لقائد بتجربة شوان لاي وبثقافته وبمعرفته تقديم هذه الإجابة السطحية والمبسطة كيف يمكن لهذا الزعيم الكبير أن يعجز عن تقديم إجابة مقنعة وهامة عن انعكاسات الثورة الفرنسية لسنة 1789 في بداية سبعينات القرن الماضي أي قرابة القرنين بعد وقوعها .
تابعت هذه الحكاية لسنوات وحاولت فهم أسباب هذه الإجابة والتي بدت لي بسيطة وغير مقنعة . وفهمت بعد سنوات وبالعودة إلى تاريخ شوان لاي المثقف والذي حاول ونجح إلى حد كبير في كبح الجماح الثوري لماو ولقادة الجيش الأحمر خاصة خلال الثورة الثقافية أن هذه الإجابة تنم عن بعد نظر وحصافة في الرأي.
لقد حاول بعض المتابعين لهذه الفترة التقليص من أهمية الإجابة والإشارة إلى أن سؤال كيسنغر كان يخص ثورات الشباب سنة 1968 والإجابة التي قدمها شوان لاي تنم عن سوء فهم للترجمة .
إلا أني افهم اليوم الإجابة التي قدمها شوان لاي بداية السبعينات حول انعكاسات الثورة الفرنسية باعتبار أن منظومة الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان ومجمل برنامج الحداثة السياسية الذي أتت به ما يزال مقتصرا على الفضاء الأوروبي والغربي بشكل عام ولم تنفتح على بلدان العالم الثالث لتصبح مبادئ كونية .
جالت في راسي هذه الأفكار وأنا أطالع الكتاب الجديد للأستاذ حمادي الرديسي «l’islam incertain Révolutions et islam post-autoritaire» أو «الإسلام المتردد الثورات والإسلام بعد الاستبداد «والذي صدر عن دار سيراس بتونس منذ أسابيع . تذكرت ما قاله شوان لاي فقط لان الكاتب أشار في بداية كتابه إلى أن الملاحظات التي يقدمها هي أولية بل كذلك لأن الكتاب الهام يدحض بعض القناعات والأفكار التي تكونت منذ سنوات حول الثورات العربية _ فالكتاب يطرح عديد الأفكار وخاصة التساؤلات والتي تضع موضع الشك والنقد بعض الآراء التي اعتقدها العديد نهائية حول ثورات الربيع العربي .
وفي الحقيقة كنا انتظرنا منذ مدة قراءة الأستاذ حمادي الرديسي للزلزال الذي عرفته المنطقة العربية بعد الثورات . وهذا الانتظار مرده إلى المكانة الكبرى التي يتمتع بها المفكر حمادي الرديسي والذي نجح في السنوات الأخيرة في نحت مسيرة فكرية وعلمية متميزة في قراءة وفهم تحولات المنطقة العربية وبصفة خاصة الإسلام السياسي وتكمن أهمية تحاليل حمادي الرديسي في جمعها بين التاريخي والفلسفي والفكري والاجتماعي وحتى الميداني لفك شفرات التحولات الكبرى التي تعرفها مجتمعاتنا. وتتميز هذه التحاليل كذلك بابتعادها عن الأجوبة الجاهزة والقراءات والتحاليل التقليدية ومحاولتها طرق أبواب المسكوت عنه والمخفي والباطن في هذه التطورات .
هذه الاختيارات جعلت الأستاذ حمادي الرديسي يتمتع بمكانة مميزة دفعت العديد من الجامعات الأوروبية كبولونيا ونانت وبون لدعوته كأستاذ محاضر . وقد دعم هذه المسيرة العلمية بعدة إصدارات مهمة .وأريد الإشارة هنا إلى ثلاثة كتب علمية شكلت محطات فكرية مهمة وكان لها تأثير كبير في الأوساط الفكرية – الكتاب الأول صدر سنة 2004 تحت عنوان «l’exception islamique» عن دار النشر le seuil في باريس والذي حاول فيه بعيدا عن الأطروحات الاستشراقية فهم أسباب هيمنة الاستبداد في المجتمعات العربية والإسلامية .
الكتاب الثاني والاهم في رأيي في مسيرة حمادي الرديسي صدر سنة 2007 عن نفس دار النشر الباريسية وعن دار سراس في تونس تحت عنوان «la pacte de Najd ou comment l’islam sectaire est devenu l’islam» وقد حاول فيه فهم صعود الإسلام الوهابي وسيطرته على المجال السياسي
أما الكتاب الثالث فقد صدر عن نفس دار النشر الباريسية سنة 2011 تحت عنوان «la tragédie de l’islam moderne» ويعود فيه الى تحديات الإسلام وقدرته على الانفتاح على المبادئ الكونية لحقوق الإنسان .
إذن هذه المسيرة الفكرية المميزة جعلتنا ننتظر قراءة الكاتب للثورات العربية الا أن الإنتاج اقتصر على بعض المساهمات نشرها في بعض الصحف أو بعض الكتب الجماعية – إلا أن هذا الشح الفكري صاحبه انخراط المفكر في العمل السياسي المباشر لينسحب بعد فترة من هذه الحلبة ويعود إلى مجاله الطبيعي أي العمل الفكري والبحثي .
وقد أنتجت هذه العودة هذا الكتاب الذي هو بين أيدينا اليوم . وأهمية هذا المؤلف تكمن في رأيي في أربع نقاط أساسية : الاختيار النظري والثلاث فرضيات التي حاول المؤلف تثبتها في دراسة تحولات الحركة الإسلامية في ظل الثورات العربية .
المسالة الأولى تخص الاختيار النظري الذي انخرط فيه الكاتب لدراسة تطور الإسلام السياسي – وقد قام الكاتب بتقديم أهم المساهمات النظرية الجديدة في مجال الدراسات الدينية وبصفة خاصة olivier Roy وBernard Lewis و Asef Bayet وتتلخص هذه الأعمال في نظرية نهاية مشروع الاسلام السياسي للعودة للخلافة وبناء الدولة الدينية . وهذه النظرية تتلخص في فكرة Post _ islamisme أو ما بعد الإسلام السياسي ودخوله في عصر جديد تنتفي فيه مخاوف الناس من مشروعه السياسي وينتهي معه الشك في تراجعه عن المبادئ الديمقراطية بخروجه من الراديكالية التي ميزت سنواته الأخيرة – ويقدم هؤلاء المفكرون عديد الأمثلة على هذه التغييرات الجوهرية التي عرفها الإسلام السياسي ومن ضمنها قبوله وانخراطه في الثلاثة مبادئ الأساسية للحداثة السياسية ألا وهي الديمقراطية تصويت الشعب من اجل اختيار القيادات السياسية والفصل بين الديني والسياسي والليبرالية السياسية والتي تعطي الحريات لكل المواطنين .
إذن يفتح هذا التحول الهام مرحلة جديدة للإسلام السياسي ينتفي فيه حسب هؤلاء المفكرين البرنامج الراديكالي الرامي إلى بناء الدولة الإسلامية لتصبح فيه هذه الحركات ما بعد الإسلام السياسي حركات سياسية عادية كحركات وأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا لا تثير الريبة والخوف من برامجها واختياراتها السياسية والإيديولوجية ويعطي هؤلاء المفكرون عديد الأمثلة لهذه الحركات التي دخلت مرحلة ما بعد الإسلام السياسي ومن ضمنها حزب العدالة والتنمية أو AKP وحركة النهضة في بلادنا وعديد الحركات الأخرى في عائلة الإسلام السياسي .
ولئن وجه الكاتب بعض النقد لهذه المقولة النظرية فانه في نهاية الأمر سيتبعها شريطة أن يكون مصطلح Post أو ما بعد الإسلام السياسي ديناميكيا وتاريخيا ولا يعني القطيعة مع الفترة السابقة وإمكانية ظهور الما قبل هذه التغيرات في أشكال وأنماط جديدة .
اثر تحديد هذا الإطار النظري يمر الباحث إلى المرحلة الثانية والى محاولة فحص وتفقد فرضياته الثلاث.
الفرضية الأولى تهم ثورات الربيع العربي وكيفية قراءتها وتحليلها .يعود المؤلف في الجزء الأول من الكتاب إلى مجمل النقاشات حول طبيعة التحولات التي فتحتها الثورات الربيع - هل هي ثورات أم مجرد انتفاضات ؟ هل نجحت هذه الثورات أم فشلت بعد انفلات العنف في سوريا وليبيا واليمن ؟
وبعد نقاش كل الآراء والتحاليل وبالرغم من دقة المرحلة وتحدياتها فإن حمادي الرديسي يؤكد أن الثورات العربية فتحت صفحة تاريخية جديدة في تاريخ المشروع السياسي والتجربة التاريخية في البلدان العربية والإسلامية – فهذه الثورات فتحت مرحلة ما بعد الاستبداد وأعلنت نهاية الأنظمة السياسية الجامدة وفتحت فترة جديدة يصعب التكهن بمصيرها وتطوراتها اللاحقة .
يتوقف الكاتب على مصير الثورات العربية وفشلها ليحاول فهم خصوصية التجربة التونسية وصمودها أمام الرياح المعادية . وتكمن هذه الخصوصية في عديد الظروف التاريخية ومنها وجود طبقة وسطى كبيرة العدد وثقافة مدنية قديمة ووحدة أثنية ودينية وتجربة الحداثة التونسية وتأثيرها على واقع المرأة وعلى المجال الديني .
لعبت هذه العوامل دورا مهما في تميز تجربة التحول الديمقراطي في بلادنا حسب المؤلف والتي لن يقتصر تأثيرها على حدودنا بل سيبدأ ليواصل زرع بذرة التغيير الديمقراطي ونهاية الاستبداد .
الفرضية الثانية التي يسعى الكاتب إلى دراستها في الجزء الثاني من هذا الكتاب تخص تحولات الإسلام السياسي اثر الثورات العربية – ويشير إلى أن الحركات الإسلامية عرفت تطورا يصعب التنبؤ بمستقبلها – إلا أنها تنفتح على احتمالات متعددة من الأفضل إلى الاسوأ – وقد ركز الباحث على سيناريوين مختلفين لمحاولات الإسلام السياسي دخول الديمقراطية
– السيناريو يسعى الى بناء ديمقراطية تيولوجية أو دينية مبنية على التردد او المراوحة بين الدولة المدنية والدولة الدينية .
أما السيناريو الثاني فهو الديكتاتورية الانتخابية والتي لا تسمح بالتناوب في الحكم. وتكمن أسس هذا النظام في ضبط نظام انتخابي اغلبي يسمح بسيطرة هذه الحركات ولا يسمح بالتعدد والتقليص من الحريات والهيمنة على المؤسسات _ وقد أعطى عديد الأمثلة لهذه الأنظمة السياسية التي تعتمد الديكتاتورية الانتخابية .ولئن كانت التجربة التركية تؤكد بعض
استنتاجات الباحث فإن الأمثلة الأخرى التي أشار إليها وهي ماليزيا والسينغال تفندها باعتبار ان هذه البلدان تعيش تجارب التناوب على الحكم .
الفرضية الثالثة التي حاول المؤلف دراستها تخص مسألة تكرار تجارب الإسلام السياسي ومشاريع بناء الدولة الدينية – وينتهي إلى نتيجة وهي انه كلما دخل اتجاه من الإسلام السياسي إلى موقع الرصانة والمسؤولية وحاول الابتعاد عن مشروع الدولة الدينية إلا وظهر تيار جديد يختار الخط الراديكالي ويدفع أجيالا من الشباب نحو معارك جديدة . ويأخذ على سبيل المثال ظهور التيارات الجهادية والسلفية بعد دخول الحركات التقليدية مرحلة ما بعد الإسلام السياسي . وهذا التكرار وإعادة التجارب الراديكالية يؤكد نظرية ابن خلدون في السيرورة التاريخية للفكر الراديكالي فكلما دخل ثوار الأمس المدن واستطابوا فيها حياة الرخاء إلا وظهرت أجيال جديدة من الثوار لتسعى لتقويض المدن من جديد. وهذه النتيجة تطرح حسب المؤلف الأزمة الجوهرية للإسلام السياسي والمتمثلة في عدم قدرته على التخلص من برنامجه الأصلي ومشروع بناء الدولة الدينية.
يشكل في رأيي كتاب حمادي الرديسي ككل كتبه السابقة مؤلفا هاما يجب دراسته وإعطاؤه الأهمية التي يستحقها – إلا انه على أهميته فانه لابد لنا من الإشارة إلى نقص هام وأساسي في هذه القراءة وهي قلة حضور الحركة الاجتماعية في قراءة تحولات الإسلام السياسي في مرحلة ما بعد الاستبداد فقد ركز المؤلف في تحليله على المسائل النظرية والفكرية والتطور التاريخي لهذه الحركات . إلا أن الجانب الاجتماعي وبصفة خاصة الصراعات الاجتماعية وديناميكيتها والتي ساهمت مساهمة كبيرة في درء التردد الذي ميز هذه الحركات لم يكن حاضرا بما فيه الكفاية في هذه القراءة – فالتجربة التونسية أبرزت ربما بما لا يدع للشك في السنوات الاخيرة أهمية هذا العامل في تطور الحركة الإسلامية – فقد لعبت الحركات الاجتماعية دورا كبيرا في التصدي لبعض الأحلام أو الأوهام في إمكانية العودة إلى مشروع الدولة الدينية . كما ساهمت هذه الحركات الاجتماعية في مراجعات هامة عند الحركات الإسلامية وابتعادها عن المشاريع الإيديولوجية والقوالب الجاهزة في تعاملها مع المجتمع . كما لعبت الحركة الاجتماعية والتعبئة الجماهيرية دورا أساسيا في دحر السلفية الجهادية والإرهاب .
يطرح الكتاب حمادي الرديسي مسالة هامة أساسية تخص مألآت الإسلام السياسي وسيناريوات تطوراته الآتية والقادمة . ولئن كان من الصعب على رأي القائد الصيني شوان لاي التنبؤ بتطوراتها المستقبلية فان دراستها لا يمكن ان تقتصر على المسائل الفكرية والإيديولوجية على أهميتها بل يجب ان تضعها في إطارها الاجتماعي والصراعات التي تفوضها الحركات الاجتماعية .