المنظمة كانت منذ سنوات خلت تثير اهتمام العالم وتستأثر بانتباه الصفحات الأولى لكبريات الجرائد العالمية والصحف . وهذا الخبر يهم إعلان ETA أو ايتا المنظمة اليسارية المسلحة والمطالبة باستقلال مقاطعة الباسك في اسبانيا بالاعتذار لضحايا العمليات الإرهابية التي قامت بها منذ انطلاقها والمآسي التي تسببت فيها إلى حدّ إعلانها إيقاف عملياتها العسكرية سنة 2011.
ويشير البيان بكل وضوح إلى أن منظمة إيتا (ETA) «تتحمل مسؤولية كل الآلام التي تسببت فيها خلال مسيرتها المسلحة « ويقول البيان : نحن شاعرون واعون بكل الألم والوجع الذي تسببنا فيه لكل أبناء شعب الباسك. ونريد أن نعبر عن احترامنا للموتى والجرحى وكل ضحايا أعمالنا العسكرية ونعتذر عن ذلك بكل صدق «.
ومنظمة ETA تكونت سنة 1959 تحت ديكتاتورية فرانكو في اسبانيا . وكان هدفها إلى جانب النضال ضد الديكتاتورية تحقيق استقلال مقاطعة الباسك. وقد اختارت الفكر الماركسي الثوري كنظرية للتنظيم والعمل العسكري المسلح كمنهج للتغيير ولتحقيق أهدافها السياسية . ولئن لقيت هذه المنظمة الكثير من التعاطف في زمن الديكتاتورية باعتبار غياب وتقلص مجالات التعبير السياسي فلقد أصبحت محل نقد كبير منذ انتصاب الديمقراطية.ولم يقتصر هذا النقد على الرافضين لمبدإ استقلال مقاطعة الباسك بل شمل كذلك حتى المدافعين عنه – وبالرغم من رفض طرق ETA واختيار الكفاح المسلح فقد زادت هذه المنظمة من حدّة هجماتها وأعمالها ليصل عدد ضحاياها إلى قرابة 800 قتيل في 40 سنة من النشاط . وقد ساهم هذا الاختيار الانتحاري في تضييق الخناق على منظمة ETA لتمر من هزيمة إلى أخرى ولينتهي إشعاعها وتأثيرها لدى الشباب المتمرد ولتصبح في السنوات الأخيرة متكونة من مجموعة صغيرة جدّا من المطاردين من طرف كل أجهزة البوليس والمخابرات في اسبانيا وفرنسا .
هذه الهزيمة العسكرية والسياسية دفعت بقادة منظمة ETA إلى إعادة النظر في استراتيجيتها العسكرية واختيار الكفاح المسلح .وهذه القراءة دفعت المنظمة إلى الإعلان في أكتوبر 2011 عن إيقاف عملياتها العسكرية ثم لتعلن في 20 افريل 2018 عن اعتذارها العلني لضحاياها وللشعب الاسباني عن الألم والمآسي التي تسببت فيها . ولم تسفر هذه التراجعات عن تحقيق مطالب ETA في إطلاق سراح مساجينها في السجون الاسبانية أو حتى تجميعهم لتتواصل محنتهم ومحن عائلاتهم .
إلا أن القضية التي يطرحها اعتذار ETA وهزيمتها السياسية والعسكرية ليست قضية خاصة بل هي مسألة عامة وتهم تجارب العمل المسلح ومحاولات التغيير السياسي والاجتماعي من خلال الالتجاء للعنف المسلح . والسؤال الذي سأحاول الإجابة عنه في هذا المقال يخص أسباب فشل هذه التجارب وعجزها عن تحقيق أهدافها وتغيير الواقع . وفي الحقيقة فقد كانت نتائجها في اغلب الأحيان عكسية . فكانت تجارب العمل المسلح وراء تزايد الوبال والمآسي التي تعاني منها الشعوب والتي طرحت على نفسها تحريرها وانعتاقها .
نعود إلى تساؤلنا بعد هذا التقديم حول أسباب فشل تجارب الكفاح المسلح وانهيارها على مدى التاريخ . وتعتبر تجربة الثورة الكوبية والثورة الجزائرية والثورة الساندنستاتية في نيكاراغوا من التجارب القليلة التي عرفت الانتصار . لكن قبل الإجابة عن هذا التساؤل سنحاول العودة إلى تاريخ تجارب العنف المسلح لاستعراض أهم خصائصها ومكوناتها.
وقد حدد عديد الخبراء والباحثين تجارب الكفاح المسلح وحرب العصابات وتم تعريفها في الحروب التي تقوم بها مجموعات صغيرة ضد الجيوش النظامية للأنظمة السائدة من اجل إسقاطها وتغييرها وإحداث ثورات سياسية واجتماعية جذرية . ويرجع اغلب المؤرخين انطلاق هذه التجارب وجذورها التاريخية إلى حرب السيفين Guerre des Cévennes بين سنوات 1702 و1704 والتي قام بها الفلاحون الفقراء في جنوب فرنسا ضد النظام الملكي في فرنسا .
إلا أن تطور تجارب الكفاح المسلح ونموّها ستكون في القرن العشرين – وسيعرف هذا القرن تطورا كبيرا لهذه التجارب ويمكن تصنيف هذه التجارب في أربع مراحل تاريخية كبرى .
المرحلة الأولى تهم التجارب التي عرفتها أوروبا اثر صعود وهيمنة الفاشية قبل الحرب العالمية الثانية .
وقد عرفت اغلب البلدان الأوروبية نموا وتطورا كبيرين لحركات سياسية وعسكرية لمناهضة الأنظمة الفاشية . وقد ساهمت الأحزاب والحركات الشيوعية في تنامي وتطور هذه الحركات والتي لعبت دورا هاما في إضعاف المدّ الفاشي في أوروبا . وقد شكلت الحرب الاسبانية والحركات العسكرية المناهضة لفرانكو أهم هذه التجارب . ولم تقتصر هذه التجارب على اسبانيا بل عرفت اغلب البلدان الأوروبية تطورا كبيرا لحركات الكفاح المسلح مثل فرنسا وبلدان أوروبا الشرقية . وقد لقيت هذه الحركات دعما كبيرا من شعوبها وكذلك من القوى الأجنبية وعديد البلدان كالاتحاد السوفياتي مما مكنها من لعب دور هام في سقوط الفاشية وهزيمتها في الحرب العالمية الثانية وبناء عديد الأنظمة الاشتراكية اثر الحرب .
المرحلة الثانية تهم تجارب التحرر الوطني في بلدان العالم الثالث الرازحة تحت الاستعمار المباشر . وهنا يمكن لنا ذكر عديد الملاحم التاريخية ومن ضمنها الحرب الشعبية الطويلة الأمد والتي قام بها الحزب الشيوعي الصيني تحت قيادة ماوتسي تونغ لبناء الاشتراكية . كما يمكن أن نذكر حركة التحرر في الفيتنام بقيادة هوشي منه ضد الاستعمار الأمريكي وتبقى الثورة الجزائرية بقيادة جبهة التحرير إحدى أهم التجارب الكفاحية في هذه الفترة . ولابدّ لنا كذلك من الوقوف في هذه المرحلة على تجربة الثورة الفلسطينية بمختلف فصائلها في إطار منظمة التحرير وبالعمل السياسي والعسكري الذي قامت به ضد الاحتلال الإسرائيلي .عرفت هذه المرحلة الوطنية عديد التجارب في العمل العسكري والمسلح والتي بقيت إلى يومنا هذا منارات هامة تنير طريق الكفاح السياسي .
المرحلة الثالثة في تجارب العمل العسكري تهم الحركات الثورية التي ظهرت اثر ثورات الشباب في نهاية السنوات الستين . وقد تطورت هذه الحركات العسكرية المسلحة في أوروبا ونذكر منها حركة الألوية الحمراء أو Brigades rouges في أوروبا ومجموعة بادر ماينهوف في ألمانيا ومجموعة action, directe في فرنسا . وقد منيت هذه الحركات بفشل ذريع وتمكنت الأجهزة البوليسية والعسكرية في البلدان الأوروبية من القضاء عليها وإبادتها .
ويمكن لنا أن نعتبر أن فشل هذه المجموعات منذ منتصف السبعينات قد أسس لبداية انهيار تجارب العمل المسلح في البلدان المتقدمة وانتصار الأنظمة وبصفة خاصة الديمقراطية على اختيار العمل المسلح .
أما التجربة الرابعة والأخيرة فستكون من نصيب الحركات الجهادية ذات المرجعية الإسلامية وهذه التجارب ولئن انطلقت مع تنظيمات التكفير والهجرة في مصر منذ منتصف السبعينات فإنها ستشهد تطورا كبيرا مع تنظيم القاعدة وبن لادن اثر اعتداءات 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية لتتواصل اثر الثورات العربية مع ظهور التنظيمات الجهادية وبصفة خاصة ما سمي بتنظيم الدولة الإسلامية ولئن لعبت الحركات الجهادية دورا مهما في تعبئة الشباب المهمش في البلدان العربية فإنها عرفت هزائم عسكرية عجلت باضمحلالها وبنهايتها .
إن هذه القراءة السريعة لتجارب العمل المسلح تشير إلى نتيجتين مهمتين – الأولى أن تجارب النضال ضد الفاشية وضد الاستعمار عرفت نجاحا كبيرا للعمل العسكري نتيجة وجود حاضنة جماهيرية كبيرة ودعما من الخارج – النتيجة الثانية هي انتفاء وهزيمة تجارب العمل المسلح من منتصف السبعينات .
هذه النتائج تدفعنا إلى العودة إلى سؤالنا المركزي في هذا المقال وهو فهم أسباب هذه الهزائم وفشل العمل العسكري والكفاح المسلح كآلية وطريق للتغيير السياسي ؟
للإجابة عن هذا التساؤل الهام أريد اقتراح مسائل أساسية . السبب الأول في فشل هذه التجارب يعود للنظرة النخبوية للعمل السياسي . اذ تعتقد وتدافع هذه التنظيمات عن صورة القائد الفذ والمسلح فالعلاقة مع الناس تشوبها الكثير من الريبة وعدم الثقة مما يفقدها القدرة على التواصل والصمود.
السبب الثاني لفشل هذه الحركات والعمل المسلح يعود في رأيي إلى تطور العمل المخابراتي عند الأنظمة والمضادّ لهذه المجموعات وقد شكلت المخابرات الأمريكية منذ بداية الستينات فرقا خاصة لمحاربة المجموعات الثورية وحرب العصابات – ثم قامت بتدويل هذه التجارب وتكوين فرق خاصة في البلدان التي شهدت تطورا لهذه البؤر الثورية خاصة في امريكا اللاتينية اثر نجاحات الثورة الكوبية والتأثير الكبير لأفكار شي قيفارا – هذا الاستعداد والتكوين دعم القوات النظامية وقدرتها على هزم التنظيمات الثورية المسلحة . وبقيت النجاحات والانتصارات محدودة جدا ولعب فيها عنصر المفاجأة دورا كبيرا كما هو الحال في الثورة الكوبية والثورة الساندناستية (sandiniste) في نيكاراغوا.
السبب الثالث وراء هذه الهزائم للعمل المسلح يعود إلى ردة فعل الأنظمة والعقاب الجماعي الذي تسلطه على الناس في المناطق التي تتواجد فيها البؤر الثورية .وهذه السياسات دفعت الجماهير العريضة إلى الابتعاد عن هذه المجموعات ورفضها احتضان هذه التجارب بالرغم من تأكيد هذه الحركات أنها تناضل من اجلها . وساهمت هذه السياسات في عزلة هذه الحركات والتي عرفت في عديد الحالات نهايات مؤلمة مثل نهاية شي قيفارا في بوليفيا بعيدا عن الناس وكمجموعة من اللصوص .
السبب الرابع يعود إلى تطور النظام العالمي ورفضه للانقلابات العسكرية والأنظمة الديكتاتورية والتي شكلت في عديد الأحيان الوقود الذي دعم التجارب الثورية – فظهور الديمقراطية التي أصبحت معيار الأنظمة السياسية في العالم كان وراء تراجع اختيار الكفاح المسلح كأداة للتغيير السياسي .
إذن شهدت اختيارات وتجارب العمل المسلح هزائم وانتكاسات متتالية في السنوات الأخيرة . إلا أن هذا الفشل لا يعني نهاية التغيير في المجتمعات البشرية بل هي انتصار للديمقراطية والعمل الجماهيري السلمي والمنظم لتغيير المجتمعات والنضال من أجل فتح المشاركة السياسية ووضع حد للتهميش الاجتماعي وكراهية الآخر والحيف الطبقي .
إلا أنه وبالرغم من هذا الفشل والمآسي التي عرفتها الشعوب من جراء هذه الاختيارات السياسية فإننا نعتقد أن العالم سيعرف تجارب أخرى في هذا المجال نتيجة فقدان الأمل وتنامي الضغينة والأحقاد التي تنمو في عديد المجتمعات ويغذيها الحيف الاجتماعي وهذه الأوضاع تتطلب منا دعم سياسات التغيير وإنجاح تجارب التغيير الديمقراطي وتحقيق مطالب الثورات العربية من حرية وكرامة واندماج اجتماعي لانتزاع فتيل هذه الحروب وإبعاد عديد الشباب وفاقدي الأمل عن مخالب المغامرين ومروجي الأوهام .
وداعا للبندقية: في أسباب هزائم الكفاح المسلح
- بقلم حكيم بن حمودة
- 13:40 30/04/2018
- 3147 عدد المشاهدات
مرّ الخبر مرّ الكرام ولم يثر انتباه الملاحظين. ولم يلق هذا الإعلان الهام مكانا إلا في الصفحات الداخلية للصحف بالرغم من أن أخبار هذه