على غرار أسباب شعبية الفايسبوك ومكانته المتعاظمة في حياتنا الاجتماعية، وتأثيره على الحياة السياسية وعلاقته بظاهرة الإرهاب ومسائل تنظيمه أو تعديله (على غرار الميديا السمعية البصرية) ومصير المثقف والصحافة والميديا في عصر الفايسبوك.
كيف يمكن للمثقف أن يمارس دورا في مجتمع (التونسي) تراجعت فيه الصحافة المكتوبة إلى حد الاحتضار، لا يقرأ فيه الناس أو توقف أغلبهم عن القراءة، وأصبح للجميع الحق في الكلام وفي التعبير، وفي إشهار الآراء والمواقف ؟ كيف يمكن للمثقف التونسي أن يجد مكانا في هذا الفايسبوك الذي تكاثر فيه «النشطاء» والمدوّنون والسياسيون ؟ الانخراط في التفاعل الافتراضي، والانصياع إلى منطق الحضور اليومي في «الفايسبوك» للتعليق على كل شيء؟ وما قيمة صوت المثقف في هذا المجال العمومي الجديد الذي يبحث الجميع فيه عن التأثير في الجميع؟ وهل يمكن أن نفترض أن تراجع صفحات الرأي في الصحافة المكتوبة قد يكون مرتبطا على نحو ما بهذا الانتقال إلى الميديا الاجتماعية بما أن «التدوينة الفايسبوكية» الخفيفة حلّت محلّ المقالة الفكرية العميقة، وحيث يظل حضور المثقف في التلفزيون محدودا لأن السياسيين والخبراء والمعلقين (chroniqueurs) استأثروا به فحوّلوه إلى مشهد مفتوح على المواجهات والصدامات وكلّ أنواع الاستقطاب ؟
ما المثقّف ؟
ظهر المثقّف كفاعل مستقل بذاته في بدايات القرن العشرين أثناء أحداث قضية «دريفوس» في فرنسا عندما انخرط الكاتب الفرنسي «اميل زولا» في الدفاع عن الجندي اليهودي عبر مقالة أضحت مشهورة « j’accuse ». منذ ذلك الوقت تشكّل المثقّف الذي أصبح فاعلا أساسيّا في المجال العمومي يدافع عن قضايا الشّأن العامّ منشغلا «بكل ما لا يعنيه» حسب المقولة الشهيرة لـ»جون بول سارتر». ساعيا إلى توجيه الآخرين كما يرى ذلك ريجيس دوبريه. والمثقّف ليس سياسيا لأنه غير معني بالسلطة أو وبالتنافس عليها. وهو ليس بالضرورة أكاديميا يعمل في مجال إنتاج المعرفة، كما أن كل أكاديمي ليس بالضرورة مثقفا إذا اكتفى بعمله المعرفي، منزويا عن المجال العمومي وعن الانخراط في صراع الأفكار والالتزام بالقضايا، مهما كانت طبيعتها، أو مفضلا العمل في مجالات الخبرة....
يرتبط الدّور الاجتماعي للمثقف بإنتاج الأفكار، وبالالتزام، والانخراط والتأثير. هذا ما يميز المثقّف عن سائر العاملين في مجال المعرفة والثقافة، ولهذا السبب كثيرا ما ينظر إلى المثقف على أنه يساري ملتزم مناضل يحتاج في أداء دوره حسب «دوبريه» إلى «الميديا» للحضور في المجال العمومي لاستثمار مكانته التي يستمدّها من اختصاصه المعرفيّ.
المدوّن منافس للمثقف
ومع ظهور «الإنترنت» تغيّر السّياق الذي يعمل فيه المثقف، لأنها أتاحت للناس العاديين فرص الكلام في المجال العموميّ وإمكانيّة الفعل فيه. هكذا ظهر في تونس «المدوّنون» bloggeurs كفئة جديدة منخرطة في الشأن العام تصارع السّلطة السياسيّة، وتقوم بالأدوار التي تخلّى عنها المثقف : الانخراط في الدفاع عن قضايا المجتمع، إضافة إلى أن «المدوّن» استمد إشعاعه من قدرته على سرد الحياة الجماعية. فالمدونون فئة من طراز جديد «هجينة» تجمع بين خصائص الصّحفي (سرد الحياة الجماعية، الكتابة عن وقائع الحياة الجماعية...) والمثقف (الالتزام بقضايا جماعيّة والدفاع عنها، والنّضال من أجلها وإرادة توجيه طريقة تفكير النّاس فيها، ودفعهم إلى الفعل وفق ذلك). ويمكن أن نصنّف أحيانا «المدوّن» على أنّه «مواطن صحفي»، وهي صفة تطلق على غير الصّحفي المهنيّ عندما يصبح منتجا مشاركا في المجال العموميّ عبر النّصوص، والصورة ،والفيديو، والصوت....
وإذا كانت الثورة التونسية لم تستند إلى فلسفة أو إلى منظومة من الأفكار، ولم يشارك في أحداثها المثقفون ممّا يفقدها طابع الثورة الأصيلة، كما يرى البعض، على غرار الثورة الفرنسية التي مهّدت لها فلسفة الأنوار. فإنها تظلّ رغم ذلك ذات تفرّد تاريخي بما أنها تقدّم على أنها الثورة الأولى التي وظفت «الميديا الاجتماعية « مستمدّة طاقتها من حراك «المناضلين الافتراضيين»، تلك «النخبة» البديلة التي تحوّلت إلى طليعة ثورية تقارع السلطة بواسطة أدوات «الانترنت». هؤلاء المناضلون من طراز جديد والذين يطلق عليهم les cyber militants ، حظوا بإشعاع عالمي كبير وتحولوا إلى «أيقونات» الثورة والتجسيد الفعليّ لـ»أتوبيا» التحرّر بواسطة التكنولوجيا.
ومع انتشار «الميديا الاجتماعية « غادر جزء كبير من هؤلاء المدونين فضاء التدوين التقليدي نحو مواقع «الميديا الاجتماعية» والفايسبوك تحديدا. لكن أغلبهم فقدوا إشعاعهم السابق ولفّ الكثير منهم النسيان، بعضهم يعيش على انتصارات السنوات الماضية في حين سعى البعض الآخر للاندماج في «الميديا التقليدية» : الإذاعة التلفزيون على وجه الخصوص.
يمكن تفسير تراجع سلطة «المناضلين الافتراضيين» بتغيّر السّياق. لقد استمدّ هؤلاء بريقهم من سياق لم يكن فيه النظام السياسيّ السابق قادرا على استيعاب إكراهات «العولمة الاتصالية» المتصلة خاصة بالانتشار الكوني لـ»لميديا الاجتماعية» وما انجر عن ذلك من تعزيز لقيم الانفتاح والشفافية وحرية النفاذ (وهي قيم الرأسمالية الثقافية كما أشرنا إلى ذلك في المقال الأوّل). أما اليوم فإن جميع التونسيين يستفيدون من «البيئة المنفتحة» و»الشفافة» لممارسة أشكال من «النضال الافتراضي» من نوع جديد وغير مكلف. كل على طريقته يعارض ويساند ويبارك وينتقد، مكتفيا في غالبا الأحيان بهذه الأفعال.
ثم إن مجال الأفكار والآراء أصبح أكثر تعقيدا وتنوّعا، فقد استعاد الصحفيون دورهم الاجتماعي فأصبحوا يتمثلون أنفسهم طليعة المدافعين عن حرية التعبير باعتبارهم «السلطة الرابعة». كما تعاظم دور التلفزيون وأصبحت برامجه الإخبارية والحوارية تستقطب التونسيين، مما ساهم في ظهور وصعود فئة جديدة من الفاعلين في مجال «الميديا» يختلفون عن الصحفيين، لأنهم لا يعملون في غرفة الأخبار لصناعة الخبر ولا ينزلون إلى الميدان، يطلق عليهم صفة «الكرونيكور» chroniqueurs، يظهرون خاصّة على شاشة التلفزيون أو في الإذاعة. يختلفون عن كتاب الرأي أو الأعمدة الصحفية لأن يحظون بالظهور اليومي التلفزيوني وبالبريق والاعتبار الرمزي ، يطلّون على الناس صباحا مساء، ليفسروا للتونسيين الأخبار والأحداث ويعطونهم المفاتيح لفهمها، من منطلق أن بإمكانهم أن يكونوا «معلمين» للناس، موجهين للرأي العام صنّاعا له.
وبرز كذلك في «الميديا» الخبراء الذين يتحدثون في أمور الإرهاب والأمن والاقتصاد والتي تحتاجهم «الميديا» لتأثيث الساعات الطوال من البرامج الحوارية. كما يجب أن ننسى «أدمينات» الصفحات المجهولين وهم وسائط جدد ينتقون لنا ما نقرأه عبر صفحات أصبحت تجمع مئات الآلاف من المتابعين، دون أن نغفل بطبيعة الحال فئة «مدوني الفايسبوك»، رغم عدم دقّة هذا الكلمة، وهم المدوّنون الذين تركوا التدوين التقليدي لصالح الحضور في «الفايسبوك» أو «المدوّنون» الذين يعتمدون على الفيديوهات خاصة .
ما مصير المثقّف التقليدي
في الفايسبوك ؟
نشرت مؤسسة «مادينات» Medianet قائمة «الصحفيين، والمدونين، والنشطاء الأكثر شعبية» أي الذين يحظون بمتابعة «جمهور» الفايسوبك الذين يحظون بالإعجاب like أو بالتعليقات. و نجد في المراتب العشر الأولى خليطا من «نشطاء الإنترنت» ما قبل الثورة ومن المدونين (من نوع جديد) ومقدمي برامج تلفزيونية ولا يوجد في هذه القائمة سوى الأستاذة الجامعية رجاء بن سلامة.
يبيّن هذا الترتيب أدوار التلفزيون الجديدة في التسلية والترفيه وفي النقاش السياسي مما يفسر وجود منشطين تلفزيونيين وفكاهي «مقلّد» أصوات. فالتلفزيون رغم تنامي الميديا الاجتماعية ـ يظل الميديا الأساسية التي يحصل من خلالها التونسيون على الإخبار، ويتابعون بواسطتها النقاش السياسي خاصة عندما يصمّم في بعض القنوات كفرجة ومشهد.
وتتضمن القائمة ثلاثة مدونين من «المناضلين الافتراضيين، ما قبل الثورة عرفوا كذلك بظهورهم التلفزيوني والإذاعي، وبانخراطهم في الصراع السياسي الإيديولوجي. وفي القائمة كذلك «ناشطين» فايسبوكيين خالصين»، أحدهم اختصّ في نشر الفيديوهات أو «التدوينات «الشخصية المسلّية يستخدم فيها لغة نابية، لا رسالة فكرية أو أيديولوجية أو سياسية له، يسرد حياته اليومية. وأثار استقباله في المطار من طرف المئات من معجبيه اهتمام الصحافة التي قامت بنقل أحداث هذا الاستقبال وتخصيص الافتتاحيات لتفسير الظاهرة. وتساءل البعض كيف يكمن لشخصية طريفة مثل هذه أن تحظى بهذا التقدير؟ ورأى البعض في ذلك دليلا على «الذوق الهابط» للشباب التونسي في حين وبّخ البعض الآخر النخب على عدم قدرتها على فهم خصوصيات ثقافة الشباب الجديدة.
وفي المرتبة العاشرة نجد مثقفة بالمعنى التقليدي للكلمة وهي أستاذة جامعية، صاحبة مواقف سياسية وإيديولوجية انخرطت في الصراع الأيديولوجي والسياسي وناشطة في «الفايسبوك» عبر التدوين المستمر.ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة «نشطاء» آخرين بعضهم يعيش خارج تونس يستخدم خاصة الفيديوهات، في حين ينشر البعض الأخر بواسطة أسماء مستعارة على غرار «علي شورّب» أو «محرز بلحسن» الذي تتسم كتاباته بكثير من الفرادة والطرافة.
هكذا تقدّم لنا هذه القائمة رغم طابعها المتغيّر صورة حية عن بعض تحولات المجال العمومي التونسي وعن مصير المثقف التقليدي فيه كفاعل استأثر ببعض وظائفه التقليدية فاعلون جدد. وقد يعود هذا الغياب أو محدودية حضور المثقف التقليدي إلى أسباب عديدة منها أنّ «الفايسبوك» لا يتسع لنقاش عقلاني ورصين، يتجاوز الاتصال الانفعالي العاطفي والشعبويّ والعدائي وحتى الهستيري وكل أنواع الاستقطاب التي تفسد المجال العمومي التونسي والتي تقتضي من الإنسان أن يعبّر عن موقف ما بطريقة مبسّطة قابلة للتصنيف وفق الثنائيات المتعددة الأيديولوجية والسياسية التي أضحت تمثل عائقا أمام التفكير المستنير (كم من مرة نرى «صديقا» يهدّدنا بتنظيف قائمته وحذف من لا يشاطرونه آراءه أو مواقفه).
فالفايسبوك لم يصمّم للنقاشات الفكريّة أو الحوارات التي غايتها التفاهم والتي لا نراها إلا نادرا بل هو موقع لإدارة العلاقات الاجتماعية في طور التحول إلى بيئة تتشكل فيها أنشطة متعددة. يقتضي الظهور في الفايسبوك الصورة والفيديو والنصوص القصيرة التي تستدعي التعليقات السريعة والتفاعل معها في أحيان كثيرة بواسطة المشاعر والعواطف المنفلتة غير المعقلنة. وعلى هذا النحو يمكن أن يكون الفايسبوك ذلك المجال الذي يمكن أن نتأكّد فيه ممّا تسميه الفيلسوفة الفرنسية Anne Dufourmantelle نهاية التصعيد la fin du sublime أي نهاية قدرة الإنسان المعاصر على إدارة نزواته وتحويل طاقتها إلى إبداع. فلا غرابة إذن أن نرى في الفايسبوك التونسي انفلات المشاعر والسلوكيات العدائية والنرجسية المفرطة وانكشاف العوالم الذاتية الذي يكاد أن يصبح فاحشا obscène.
إن الخطر الجسيم الذي يمكن أن يهدد المثقف هو أن يصبح «ناشطا فايسبوكيا» مثل كل «النشطاء الفايسبوكيين» يتوقف عن صناعة الأفكار وإنتاج المعرفة والكتابة التقليدية ( الكتب والمقالات) لينخرط في التفاعل المستمرّ، منقادا إلى إكراه الظهور اليومي للتعليق على كل شيء فيصبح أنا بارزة ego visible فحسب.
خلاصة القول إن أزمة المثقف بشكل عام سابقة لظهور الميديا الاجتماعية. ففي فرنسا مثلا أعلن ريجيس دوبريه منذ بداية الألفية في كتابه (les intellectuels français suite et fin ) عن نهاية المثقف على الطريقة الفرنسية بسبب تراجع قدرته على التأثير. وقبل دوبريه اعتبر الفيلسوف زيغمونت بومانت Zygmunt Baumant أن انحدار المثقف يتمثل في فقدانه دور المشرّع للمجتمع المثالي وصانع القيم والأفكار لصالح دور أقل طموحا يتمثل في تأويل العالم والبحث عن معنى للأحداث.
وإذا كان الأمر كذلك فإن دور المثقف، في مجتمع كالمجتمع التونسي أصبح فيه الفايسبوك نشاطا روتينيا مندمجا في الحياة اليومية والعامة، يتمثّل أساسا في التصدي النقدي لعالم الميديا الاجتماعية وما يترتب عنه من نتائج ثقافية وسياسية واجتماعية خاصة تلك التي يمكن أن تفسد عالمنا المشترك وحياتنا الجماعية. وهذا مشروع لم نر بعد إرهاصاته.
------------
• الصادق الحمامي: أستاذ محاضر بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار، له عدة مؤلفات في مجال الميديا والاتصال منها : «الميديا الجديدة»، منشورات جامعة منوبة 2012 والإعلام التونسي أفق جديد، دار بارسبكتيف للنشر 2012
الموقع : sadokhammami.com/ar
المقال المقبل:
• هل يساهم الفايسبوك في نجاح الانتقال الديمقراطي أم في تعطيله ؟