ولا يعود هذا الضعف في العلاقة الى عدم ميل الاقتصاديين للمسائل السياسية والأوضاع العامة التي تحيط بهم بل يعود ذلك الى تحول كبير عرفه هذا المجال المعرفي في نهاية القرن التاسع عشر وكان احد دعامات الفكر الاقتصادي في القرن العشرين .فقد عمل الاقتصاديون على الخروج من التصور التقليدي للاقتصاد السياسي والذي جعل الاختيارات الاقتصادية في صلب العلاقات الاجتماعية والصراعات الكبرى لتجعل منه علما يقترب من العلوم الصحيحة.
وقد قطعت الدراسات الاقتصادية منذ نهاية الفترة كل العلاقات مع العلوم الاجتماعية لتنخرط في مشروع بناء علم جديد يتفادى شوائب ما اعتبره الفكر الوضعي المجالات المعرفية البعيدة عن منهجيات العلوم الصحيحة. وكانت هذه القطيعة وراء ابتعاد الاقتصاديين عن التمشي المنهجي لآباء الاقتصاد السياسي الكلاسيكي وعن التقاطعات بين السياسي والاجتماعي والانخراط في بناء مجال معرفي مستقل بذاته. وقد ساهم هذا التحول في ابتعاد الاقتصاديين في بحوثهم ودراساتهم وتحاليلهم عن المسائل السياسية وانقطاعهم عن التناقضات الاجتماعية والصراعات السياسات.
ولئن كان هذا التوجه مهيمنا في المجال الاقتصادي خلال اكثر من قرن فقد ظهرت عديد المدارس التي اعادت بناء هذا المجال المعرفي من خلال العودة الى ثوابت الاقتصاد السياسي ومن ضمنها المدرسة الاقتصادية المؤسساتية والتي ينتمي اليها رونالد كاوس (Ronald Coase) المتحصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لسنة 1991. لكن هذه المحاولات بقيت محدودة ولم تغير النسق الذي سار عليه المجال الاقتصادي منذ اكثر من قرن.
وقد عرفت السنوات الاخيرة تطورا ملفتا حيث بدأ كبار الاقتصاديين في العالم في الاهتمام بالقضايا السياسية والانخراط في النقاش العام حول الاختيارات السياسية الكبرى، ومن ضمن هؤلاء الاقتصاديين الذين انخرطوا في المجال السياسي نجد الامريكيين جو ستيفليتر (Jo sFiglitz) وبول كريغمان (Paul krugman) والفرنسي طوماس بيكتي وغيرهم كثير.
وقد تطرق الاقتصاديون في انفتاحهم على القضايا السياسية الى عدد كبير من المسائل مثل الانتخابات والمؤسسات وتوزيع الثروة والعدالة والجباية وغيرها من القضايا التي يلتقي فيها السياسي مع الاقتصادي.وقد اهتم الاقتصاديون في الاشهر الاخيرة بمسألة ازمة الديمقراطية وصعود قوى اليمين المتطرف والشعبوي في اكبر الديمقراطيات.
وكانت لعديد الاقتصاديين مساهمات في هذا النقاش لعل اهمها المقال الذي كتبه الاقتصادي الامريكي من اصول تركية دارون اسوموقلو (Daron Acemoglu) تحت عنوان «If democracy Isn’t proworker it will die» او «اذا لم تكن الديمقراطية مساندة للعمال سنموت»
دارون اسوموقلو استاذ جامعي في MIT في جامعة ماساشوستاس وهي احدى اهم الجامعات الامريكية .وقد نشر عديد الكتب التي عرفت رواجا كبير والتي تطرح قضايا حول نقاط الالتقاء بين الاقتصاد والسياسة ومن اهمها «why nations fail» او «لماذا تسقط الدول» سنة 2019 و«Power and progress» او «السلطة والتقدم».
وقد اثار هذا المقال الكثير من النقاش وردود الافعال في المجال الاقتصادي حول ازمة المشروع الديمقراطي وسبل الخروج منها .
متابعة هذا النقاش وبعض الكتابات التي سبقته يمكننا التاكيد على ثلاث نقاط اساسية اشار اليها اغلب الاقتصاديين وارتكزت حولها مجمل التحاليل في فهم ازمة المشروع الديمقراطي وآفاقه المستقبلية .
• مسؤولية الاقتصاد في أزمة المشروع الديمقراطي
تشكل مسألة عجز وفشل السياسات الاقتصادية النيوليبرالية اولى توافقات الاقتصاديين لفهم ازمة المشروع الديمقراطي .فقد كانت وعود النظام الليبرالي ترتكز على ضمان الشغل والاستقرار وضمان مستويات معيشة محترمة لأغلب المواطنين.
ولئن نجحت دولة الرفاه اثر الحرب العالمية الثانية في ضمان هذه الوعود مما ساهم في بناء مشروعية النظام الديمقراطية الا ان الازمات الاقتصادية المتتالية التي عرفها العالم منذ بداية الثمانينات كانت وراء قصور كبير في تحقيق هذه الاهداف وتراجع الوعود التي اخذتها المجتمعات المتقدمة على عاتقها .
وكانت هذه الازمات وراء تصاعد البطالة والتهميش وتراجع المساواة مما ساهم في تراجع المشروع الديمقراطي وصعود القوى السياسية المناهضة، وقد ازدادت هذه الازمات حدة اثر ازمة 2008 و2009 والتي ساهمت في تدهور الاوضاع الاجتماعية في اغلب بلدان العالم. وقد كانت لهذه الازمات انعكاسات كبيرة على ثقة المواطنين الذين اعتبروا ان الهاجس الاساسي حماية البنوك والاحتكارات الكبرى من السقوط على حساب مصالحهم.
وقد شهدت ازمة الثقة ارتفاعا كبيرا مع تصاعد المخاطر الكبرى كجائحة الكوفيد والأزمة المناخية والحروب وعدم الاستقرار.
• النظام الديمقراطي الأسلم لتجاوز المخاطر الكبرى
ينتقل الاقتصاديون الى مسألة ثانية تهم النظام السياسي الاسلم للخروج من الازمات التي يعيشها العالم اليوم. وفي ظل ازمة المشروع الديمقراطي رأت عديد الاصوات ان الانظمة القوية التي عرفت تطورا كبيرا في بلدان الجنوب يمكن لها ان تشكل بديلا للأنظمة الديمقراطية.
وقد اتفق اغلب الاقتصاديين على انه لا بديل عن النظام الديمقراطي رغم الهزات والأزمات. فالنظام الديمقراطي قادر على دفع النمو وإعادة بناء التوازنات الاجتماعية الاستقرار العالمي.
ويبقى السؤال الاساسي والذي لم يتعرض له الاقتصاديون وحول اسس إعادة بناء النظام الديمقراطي والتوجهات التي يجب ان تقود الى الدخول في مرحلة جديدة وتجربة سياسية
• مشروع اقتصادي جديد للمستقبل
لعل المسألة الاساسية التي عادت لتسيطر على نقاشات الاقتصاديين في الفترة الاخيرة تتعلق بطبيعة المشروع الاقتصادي والسياسات التي يجب وضعها للخروج من تواتر الازمات وإعادة بناء الثقة في المشروع الديمقراطي.
يتفق الاقتصاديون على ضرورة الخروج من السياسات النيوليبرالية التي هيمنت على البرامج الاقتصادية منذ بداية الثمانينات وضبط تصورات جديدة يكون هاجسها الاساسي دفع النمو وجعل الاندماج الاجتماعي قاعدته الاساسية .كما يؤكد الاقتصاديون على اهمية وضع حد للازمة المناخية وجعل حماية المناخ احدى ركائز المشاريع التنموية المستقبلية.
ان قراءة ما بين السطور لمختلف مساهمات الاقتصاديين حول ازمة المشروع الديمقراطي وطرقهم من جديد لأبواب السياسة بعد غربة طويلة تحمل في طياتها اعترافا بالذنب لمساهمتهم في هذه الازمة من خلال السياسات الاقتصادية التي دافعوا عنها خلال الاربعة عقود المنصرمة. وهذا الاعتراف بالذنب صاحبته دعوة للخروج من السياسات النيوليبرالية التي كانت وراء الازمات الاجتماعية والثورات السياسية مع بناء تصورات وخيارات جديدة يكون الاندماج والتوازن الاجتماعي هدفها الاساسي