عدد منها في فتح ملفات ما عرف بقضايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان كالاغتصاب ،التعذيب،القتل العمد وغيرها،فمن جهة هناك تثمين لوجود مثل هذه الدوائر واعتبار النظر في مثل هذه الملفات خطوة ايجابية تحسب في مسار الانتقال الديمقراطي ولكن من جهة أخرى نجد انتقادات لاذعة لعمل الدوائر خاصة في ما يتعلق بإجراء تحجير السفر الذي اتخذته في حقّ عدد من المنسوب إليهم الانتهاكات و محاكمة شخص مرّتين،هيئة الحقيقة والكرامة بصفتها الجهة التي أحالت تلك الملفات اعتبرت نفسها تطبق القانون،وهنا تطرح عديد التساؤلات والدوائر تجد نفسها بين ضمان المحاكمات العادلة عدم الإفلات من العقاب وبين التأويلات المتعدّدة للقانون.
وللتذكير فإن قرار إحالة هيئة الحقيقة والكرامة كلّ من احمد فريعة ومن معه في ملف شهداء وجرحى الثورة بمنطقة لافيات تونس أثار ضجّة كبيرة ومواقف مستنكرة لهذا الإجراء باعتبار فريعة قد حوكم بعدم سماع الدعوى ولا يمكن محاكمته مرّتين،الأمر الذي رآه البعض الآخر عاديا في ظلّ وضع استثنائي وهو العدالة الانتقالية.
فرار قبل جلسة المحاكمة بأيام
كما هو معلوم فإن قضية الضحية كمال المطماطي كانت أول الملفات التي أودعتها هيئة الحقيقة والكرامة لدى الدائرة القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بابتدائية قابس وبالتالي هذا الملف كان الانطلاقة الأولى لبقية الملفات حيث نظرت فيه الدائرة لأول مرة بتاريخ 29 ماي المنقضي وأجلت القضية إلى شهر جويلية 2018 دون اتخاذ أي إجراء تحفظي في حقّ المتهمين الذين تغيّبوا عن تلك الجلسة،هذه القضية أثارت جدلا كبيرا منذ جلستها الأولى خاصة بعد قرار الدائرة استدعاء الشهود ومن بينهم عبد الفتاح مورو،أياما قبل الجلسة الثانية وجد المتهم الرئيسي في قضية الحال وآخرين أنفسهم طلقاء ويمكنهم مغادرة البلاد والفرار من العدالة خاصة وان شهادة عبد الفتاح مورو كانت مدوّية حيث صدح بحقيقة مرعبة مفادها دفن جثة كمال المطماطي في خرسانة بقنطرة شارع الجمهورية وذكر مسؤولين أمنيين بالأسماء،الدائرة المتعهدة رأت أنه من الضروري اتخاذ إجراء تحجير السفر على بقية المتهمين في قضية الحال لضمان عدم الإفلات من العقاب.نقطة مهمة هنا فرار المتهمين هو دليل إدانة واضح ولكن هذا لا يعني أن القضاء يبقى مكتوف الأيدي ينتظر صحوة الضمير فيهم وعودتهم للاعتذار والاعتراف بما اقترفوه من جرائم بل سيواصل عمله في البحث عن الحقيقة وإنصاف الضحايا. علما وان قضية كمال المطماطي قد وجهت فيها التهم إلى 14 شخصا بتهمة التعذيب ،القتل العمد،الإخفاء القسري وغيرها من التهم.
القضاء في الميزان
يقول المثل «المؤمن لا يلدغ من الجحر مرّتين»،لذلك رأت كلّ الدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية تقريبا أن تتخذ قرارا بتحجير السفر عن المتهمين في ملفات الانتهاكات الجسيمة المعروضة عليها كإجراء تحفظي لضمان بقاء المتهمين في تونس وكذلك ضمان حضورهم في جلسات المحاكمة و لعلّ آخرها قرار تحجير السفر في قضية شهداء و جرحى الكرم على المتهمين وهم علي السرياطي، رفيق حاج قاسم، جلال بوذريقة،، لطفي زواوي، رشيد عبيد، شادلي الساحلي ومجند العيد البوغذيري،علما وان جلّ الجلسات شهدت غياب هؤلاء،فهل هي صدفة أم هروب من الاعتذار والمحاسبة ويريد المتهمون مصالحة فقط دون أن يتكبدوا عناء الاعتذار لضحاياهم وعائلاتهم على ما تسببوا لهم فيه من أضرار ومعاناة؟،في هذا السياق هناك من يقول أن احد المتهمين ابلغه أنه «لا يعرف كيف يدخل قاعة الجلسة من شدّة خوفه من ردّة فعل الضحايا وان الفضاء أمام قاعة الجلسة مدجج بالمجتمع المدني والجمعيات المساندة لهم وبالتالي يخاف من نهشه على حدّ تعبير ناقل الرسالة،هنا أقول لو فرضنا أنه تعرّض إلى بعض العنف اللفظي وهو في طريقه إلى قاعة الجلسة هل يضاهي ذلك حجم الوجع الذي خلّفه لضحاياه؟،وإن يعتبر نفسه بريئا وربما نفذ تعليمات فوقية فلماذا كل هذا الخوف فليحضر أمام القضاء ليبلغ رسالته ويدلي بما لديه ويترك العدالة تأخذ مجراها؟ ولكن التغيب عن الجلسة بتعلّة الخوف فهذا يعتبر ربّ عذر أقبح من ذنب.الدوائر القضائية المتخصّصة وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه ،إذا حجّرت السفر على المتهمين تجد نفسها في مواجهة الحقوقيين الذين يرفعون شعار «التنقل والسفر حق دستوري»،وإذا فرّ احد المعنيين بهذه القضايا عندها يتهم القضاء بعدم اتخاذ التدابير اللازمة وربما يصل الأمر إلى التشكيك،إنها فعلا المعادلة الصعبة.