هذه الظاهرة تتفاقم شيئا فشيئا بل أكثر من ذلك هناك امتناع صريح من جهات مكلفة ببناء الانتقال الديمقراطي وضمان حقوق ضحايا الانتهاكات عن تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية،مسألة أثارت ردود أفعال مختلفة خاصة وأنها تعتبر خرقا صارخا وفاضحا للفصل 11 من الدستور الذي يحجّرها صراحة أفلا يسمى هذا فسادا بصورة أخرى يتسبب في اهتزاز ثقة المواطن في القضاء وفي مؤسسات الدولة بصفة عامة؟.
تعاقبت الحكومات وهذا الملف بقي في الرفوف في المقابل تفاقم عدد الأحكام القضائية غير المنفذة سواء الصادرة عن أجهزة القضاء العدلي أو المالي أو الإداري والنتيجة ضياع حقوق المتقاضين بجميع أصنافهم وبالتالي تعطّل بناء مسار العدالة الانتقالية أو بنائها على أسس غير سليمة وبالتالي ما يبنى على باطل فهو باطل.
الدستور صريح ولكن...
الفصل 111 من الدستور وتحديدا من باب السلطة القضائية نصّ صراحة على أن «تصدر الأحكام باسم الشعب وتُنفّذ باسم رئيس الجمهورية، ويحجر الامتناع عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها دون موجب قانوني».ولكن ما نراه على ارض الواقع في الحقيقة يثير الاستغراب والريبة فالأحكام القضائية يضرب بها عرض الحائط وكأنه لا وجود لدولة ولا لقضاء ولا لمؤسسات دولة قائمة الذات فالكل يفعل ما يريد وينفذ ما يراه مناسبا لمصالحه وحساباته الضيقة وكأن بالفصل المذكور غير موجود. بالعودة إلى لغة الأرقام فلا توجد إحصائيات دقيقة بخصوص الأحكام القضائية غير المنفذة سواء لامتناع الجهة المنفذ ضدّها أو لإجراءات تطول خاصة فيما يتعلق بقضايا المال والأعمال وهو ما يزيد الطين بلّة ويطرح عديد الاستفهامات من المستفيد من تعطيل تنفيذ الأحكام القضائية أو الامتناع عن ذلك؟ وأين الحكومة من كلّ هذا فصمتها أيضا يثير الشكوك خاصة فيما يتعلق بأحكام إدارية لها صلة بالانتقال الديمقراطي مع العلم و أن يوسف الشاهد وضع ضمن الخمس أولويات الأولى في وثيقة قرطاج مسألة مكافحة الفساد وهذه الظاهرة تعتبر فسادا ولكن بصورة مختلفة يدفع ثمنه المواطن
البسيط وضحايا الانتهاكات بمختلف أنواعها لأنهم يأملون في تونس ما بعد الثورة في دولة أساسها القانون وتطبيقه وردّ اعتبارهم بضمان حقوقهم ولكن للأسف وجدوا أنفسهم في دولة «اللاقانون» والحسابات السياسية والشخصية الضيقة ،كلّ ذلك نتيجته مسار ديمقراطي أعرج وثقة مهتزة في مؤسسات الدولة وأولها القضاء.في نفس السياق علق محمد العيادي اثر تصريح سابق لأحدى المواقع الالكترونية فوصف عدم تنفيذ الأحكام القضائية بأنه «يمثل ابرز صور الفساد التي يتعين على حكومة يوسف الشاهد أن تحاربها وتتصدى لها من خلال تفعيل المساءلة الإدارية والقضائية في شانها مؤكدا أن عدم تنفيذ الأحكام وان كان موجودا قبل الثورة فان الأمر لم يكن معلوما للعموم ولكن اليوم أصبح أكثر شيوعا وانتشارا سواء تعلق الأمر بأحكام قضائية صادرة عن أجهزة القضاء العدلي أو الإداري أو المالي معتبرا أن عدم التنفيذ المقصود للأحكام القضائية يمنع من إيصال الحقوق لأصحابها بما يفقد كل ثقة في القضاء وينزع عنه الفاعلية المطلوبة إلى جانب ما يمثله ذلك من عبث بمؤسسات الدولة ومساس بهيبتها باعتبارها حامية للحقوق ومؤمنة على ضمان علوية الدستور وسيادة القانون من خلال احترام سلطة القضاء المستقلة والمضمونة بموجب أحكام الدستور» .
هل الحلّ في ترسانة قانونية خاصة؟
من المؤكد ووفق تقدير عدد من الملاحظين أن عدم تنفيذ الأحكام القضائية سيؤدي حتما إلى إلزام الدولة بدفع تعويضات مالية باهظة من خزينتها نتيجة الضرر المادي والمعنوى بسبب عدم تنفيذ الأحكام،قائمة الأحكام القضائية غير المنفذة لا تحصى ولا تعد كما أن الجهات المتسببة في ذلك متنوعة ومن المفترض أن تكون أول من يطبق القانون وليس العكس،في المقابل صمت مريب للقصور الثلاث على هذه الظاهرة التي تعتبر خطيرة وتهدد مسار الانتقال الديمقراطي وفيها أيضا خرق للمواثيق والمعاهدات الدولية على غرار العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي ألزم صلب المادة 2 منه كل دولة طرف فيه بأن تكفل قيام السلطات المختصة بإنفاذ الأحكام الصادرة لصالح المتظلمين من انتهاك حقوقهم وحرياتهم، وللفصل 41 من القانون الأساسي عدد 40 لسنة 1972 المؤرخ في أول جوان 1972 المتعلق بالمحكمة الإدارية الذي أوجب «على الجهة الإدارية المصدرة للمقرر المطعون فيه أن تعطل العمل به فور اتصالها بالقرار القاضي بتأجيل التنفيذ أو توقيفه». أمام كل هذه الترسانة القانونية الواضحة والصريحة ولا نزال نشهد الامتناع عن تنفيذ أحكام قضائية باتة بل أكثر من ذلك تكاد تكون ظاهرة يومية رغم مطالبة عدد من الهياكل القضائية ومن بينها اتحاد القضاة الإداريين من الحكومات المتعاقبة بفتح هذا الملف والوقوف على حقيقة الوضع وتسويته. فمما لا شكّ فيه أن الأمر يستدعي التدخّل العاجل لأنه لم يعد يحتمل والبلاد مقبلة على محطات انتخابية هامة لأن تعنت أو امتناع جهات عن تنفيذ الأحكام القضائية من شأنه أن يكرس هذا المبدأ السيئ مستقبلا ويمكن بالتالي أن نشهد امتناعا عن تنفيذ حكم قضائي يتعلق بالانتخابات المقبلة والعمل بمقولة «اعمل كيف جارك وإلاّ حول باب دارك» فهل هذه الترسانة لم تعد صالحة لأنها سنّت في مرحلة ما واليوم بتغيّر الوضع ودخول قوانين أخرى حيز النفاذ يجب تغييرها حتى تتماشى مع متطلبات المرحلة الجديدة؟ أم المسألة تتعلق بالعقلية وبغياب ثقافة تطبيق القانون لدى المعهّدين ببناء دولة القانون وحضور ثقافة الحسابات والمصالح الشخصية والسياسية التي من المؤكد أنها ستنسف كلّ آمال التونسيين في مكافحة الفساد وبناء تونس الديمقراطية.