في منطقة الساحل و دعم التواجد الدولي إلى جانبها». جاء ذلك ردا على «التنبيه» الذي أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون للقادة الأفارقة الذين عبروا عن استيائهم من الموقف الفرنسي «المتعالي» و الذي أجبرهم على تنظيم قمة موازية بدون الحضور الفرنسي في شهر ديسمبر بمدينة نيامي عاصمة النيجر للتنسيق في ما بينهم قبل السفر إلى فرنسا.
وشارك في قمة «بو»، إلى جانب الرئيس الفرنسي، كل من إبراهيم بوبكر كايتا، رئيس مالي، وكريستيان كابوري، رئيس بوركينا فاسو، ومحمدو إيسوفو، رئيس النيجر، و إدريس ديبي، رئيس تشاد، ومحمد ولد الغزواني، رئيس موريتانيا. وحضر القمة كذلك الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريز وشارل ميشال رئيس المجلس الأوروبي. وخيمت على القمة الهجمة الإرهابية التي قام بها تنظيم داعش يوم 10 جانفي في النيجر والتي خلفت 89 قتيلا، و ذلك بعد الهجوم على باماكو يوم 10 ديسمبر 2019 (71 قتيلا).
«توضيح» العلاقة مع دول الساحل الإفريقي
أمام الانتقادات الرسمية والشعبية للحضور الفرنسي في دول الساحل الإفريقي، تراوح موقف الإيليزي بين سحب القوات الفرنسية و رغبة مواصلة برنامج «برخان» العسكري مع كسب دعم متجدد من قبل القيادات الإفريقية لإعادة صياغة إستراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب في المنطقة التي شهدت منذ 2013 تصاعدا كبيرا للعمليات الجهادية و انتشارا واسعا لها شمل جل بلدان المنطقة.
الخطوط العريضة للإتفاق بين فرنسا ودول الساحل الإفريقي ركزت على تحديد خارطة طريق جديدة «واقعية» يمكن تحقيقها من قبل القوات العسكرية المشاركة في مقاومة الحركات الإرهابية. ويستلزم ذلك إعادة هيكلة هذه القوات ببعث هيكل تنسيقي جديد بينها و بين هيئة أركان «برخان» بحيث يصبح التنسيق في التحضير والتحرك سهلا و سريعا. وتم الاتفاق على تحديد «مواقع عبور» على خط الحدود المشتركة و التي شهدت تعقيدات في تنقل القوات المسلحة من بلد إلى آخر لملاحقة الجماعات الإرهابية و حددت مساحة 50 كم من جانبي الحدود كمساحة قصوى للتدخل.
وتم الإتفاق على تطوير القدرات العسكرية للجيوش الإفريقية وتدريبها بدعم مالي من قبل الإتحاد الأوروبي مع تحسين جودة القيادة والدعم اللوجستي الذي يشهد مشاكل في التموين والصيانة واستيراد قطع الغيار. هذا الإطار الجديد يتطلب إرادة سياسية لتفعيله على صعيد كل دولة حتى تصبح القوات العسكرية قادرة على التصدي للجهاديين.
تغيير موازين القوى
الجانب الفرنسي الذي جند 4500 مقاتل ضمن برنامج «برخان» شعر بمحدودية التصدي للجماعات الإرهابية التي تتحرك في مساحة تشبه نصف القارة الأوروبية والتي تتمتع بحاضنة شعبية في عديد البلدان المعنية. الإتفاق الجديد يهدف إلى «تغيير موازين القوى» لصالح دول الساحل. في هذا الإطار قرر الرئيس إيمانويل ماكرون إضافة 220 عسكري لقوة «برخان» لتعزز القوات المشاركة في ملاحقة الإرهابيين. و تضم قوات الدول الخمس 5000 جندي إضافة إلى القوات الأممية (مينوسما) التي جندت أكثر من 15 الف مقاتل بين جندي و شرطي. و تم إقرار إحداث فيلق «تكوبا» للقوات الخاصة (1200 جندي) بمشاركة 10 دول أوروبية إلى جانب القوات الدانمركية و الأستونية و البريطانية.
تدويل مقاومة الإرهاب في الساحل الإفريقي هو رد ، حسب مصادر أمنية أوروبية، على تزايد العمليات الجهادية خاصة في الشهر الماضية بعد أن تولى عبد الحكيم الصحراوي قيادة تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى الذي نجح في ضم جماعات مختلفة في بلدان الساحل خاصة كتيبتين من الطوارق و من «البال» وذلك إلى جانب مجموعة نصرة الإسلام والمسلمين (القاعدة) وكتيبة «سرما» المالية تحت قيادة إياد أغ غالي وأنصار الإسلام في بوركينا فاسو.
وشهدت المخابرات الأوروبية في الأشهر الماضية تقاطعا بين الجهاديين والمجموعات الإثنية والقومية المنتفضة في مالي والنيجر وتشاد والتي لها أجندات محلية. وتخشى مجموعة الخمسة أن تسيطر الجماعات الجهادية على الطرق الصحراوية من أجل التحكم في مسالك تهريب الأسلحة والمخدرات والمهاجرين غير النظاميين الذين يختارون، في عديد الجهات، الانضمام إلى فيالق الجهاديين مقابل دعم مالي سخي. وتأمل نفس المصادر في أن يسهل الاتفاق الحاصل في «بو» تنقل القوات العسكرية عبر الحدود ووقف الانتهاكات الحاصلة في صفوف المدنيين من قبل القوات الأجنبية التي لا تفرق عادة بين الأهالي والمقاتلين في عمليات التمشيط.
لعبة الشطرنج الإفريقية
لكن قمة «بو» كان لها أجندة خفية صرح بها الرئيس الفرنسي ‘يمانويل ماكرون في نهاية الأشغال عندما ندد ب «القوى الأجنبية» التي ترتكز على «أجندة مرتزقة» ملمحا إلى الدور الروسي في منطقة الساحل الإفريقي. إعادة الهيكلة للقوى العسكرية المعلنة تخفي توجها آخر يرمي إلى استرجاع موقع القوة الفرنسية في المنطقة الذي أصبح مهددا داخليا و خارجيا.
ففي المالي و تشاد سجلت تحركات شعبية تنادي بسحب القوات الفرنسية من المنطقة معتبرة إياها «استعمارا جديدا» . وتم حرق العلم الفرنسي في بعض المظاهرات التي تقودها تنظيمات سياسية إسلامية مثل جمعية الشباب الإسلامي ومجموعة الوطنيين في مالي التي طالبت بـ«تدخل روسيا من أجل دعم الجيش المالي في استرجاع حرمة أراضيه». وعبرت شخصيات وطنية ، منها مسؤولون حكوميون، عن غضبهم من تواصل التدخل الفرنسي في الشؤون الداخلية. من هذه الشخصيات محمود ديكو الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الأعلى بمالي و كليمون ديمبيلي رئيس أرضية مقاومة الفساد والبطالة التي تضم 100 جمعية مالية. أما في بوركينا فاسو فقد عبر وزير الدفاع البوركيني لصحيفة «مايل أند غارديان» الإفريقية الجنوبية عن انشغاله بالتواجد العسكري الفرنسي في الساحل.
لكن الخطر بالنسبة لقصر الإيليزي يكمن في الإرادة الروسية المعلنة خلال القمة الروسية الإفريقية الأولى بسوتشي (أكتوبر 2019) حيث عبر الرئيس فلاديمير بوتن بوضوح عن إستراتيجية روسيا في إفريقيا القائمة على حماية الأنظمة الإفريقية القائمة – ولو خرجت عن الأعراف الديمقراطية – و أكد للقادة الأفارقة المشاركين أن «عديد البلدان تواجه مخلفات الربيع العربي . و النتيجة أن كل شمال إفريقيا أصبح مهتزا. في هذه المنطقة و في الساحل الإفريقي و في منطقة بحيرة تشاد نجد عديد التنظيمات الإرهابية ، خاصة داعش و القاعدة و بوكو حرام و الشبابز لذلك نشعر أنه من الأهمية القصوى أن نكثف الجهود المشتركة لروسيا و لإفريقيا في مجال مقاومة الإرهاب.»
الموقف الروسي المرتكز على استرجاع نفوذ موسكو في إفريقيا لأول مرة بعد سقوط الإتحاد السوفييتي وجد وقعا إضافيا مع إعلان الولايات المتحدة الأمريكية يوم انعقاد قمة «بو» عن نية الشروع في سحب القوات الأمريكية المرابطة في إفريقيا في الأشهر القادمة. واعتبرت باريس ذلك ضربة ضد سياستها الرامية إلى دعم استقرار منطقة الساحل الإفريقي.
روسيا في المربع الفرنسي
لكن باريس أصبحت واعية بأن لعبة الشطرنج هذه تهدد مصالحها في المقام الأول. هذا ما جعل الرئيس الفرنسي يصعد في اللهجة مع نظرائه الأفارقة خشية أن تسيطر موسطو على مقاليد القرار في المنطقة. و يستند الموقف الفرنسي على عدد من النجاحات الروسية المسجلة في «المربع الفرنسي» أي في الدول الفرنكوفونية و في عدد من بلدان مجموعة الخمسة.
في هذا الإطار وقعت مالي مع روسيا اتفاقا عسكريا في جوان 2019 يقضي بدعم القوات المالية عسكريا و لوجستيا. و سجلت المخابرات الفرنسية و الأوروبية في شهر سبتمبر الماضي وصول مجموعة تابعة لشركة «فاغنار» الروسية. و ذكرت وسائل إعلام افريقية أنباء حول اتفاقات عسكرية روسية مع عدد من بلدان الساحل الإفريقي منها النيجر الذي اشترى 12 طائرة مروحية من صنع روسي. و قام تشاد بتوقيع اتفاقيات اقتصادية مع موسكو تخشى باريس أن تشمل المجال العسكري وهي التي قررت تركيز مركز قيادة «برخان» في العاصمة نجامينا.
و من جهة أخرى، وقعت جمهورية إفريقيا الوسطى اتفاقا مع روسيا لدعم جهاز مخابراتها من قبل الروسي فاليري زاخاروف، القريب من الرئيس الروسي، و الذي يشغل منصب مستشار للرئيس تواديرا. وعقدت صفقة مع شركة «فاغنار» بحماية منشآت شركة «لوباي» الروسية لصاحبها إيفغيني خودوتوف لاستخراج الذهب و الألماس. و خلافا للجانبين الفرنسي والأوروبي اللذين يطالبان بتطوير الحوكمة الديمقراطية في هذه البلدان الفرنكوفونية، فإن موسكو تسعى إلى دعم الأنظمة القائمة – ولو لم تحترم الطقوس الديمقراطية – بتوفير مساعدات عسكرية وتأطير المخابرات المحلية مقابل تسهيلات اقتصادية لاستغلال الغاز و النفط و الذهب و باقي المواد الأولية الإفريقية من قبل شركات روسية على ملك ثلة من المستثمرين القريبين من الكرملين. في هذه الأجواء يعتبر لقاء «بو» الفرصة الأخيرة لفرنسا للحفاظ على نفوذها التقليدي في المنطقة الموروث على العهد الإستعماري.