هناك فراغ يسمى الفجوة، وأصبحت السلطة في يد المركز أو ما يسميه البعض النواة. بين النواة والفجوة، يقع صراع الأجيال القادمة لهذا الكون، حيث تمثل النواة في معظم تفسيراتها بأنها «القوة العظمى»، تجذب اليها مكونات التبعية وتحيك خيوطها لنظام مستقبلي، وهو ما يقع تحت أطر سيطرتها وتأثيراتها، بينما يذهب الجميع الى فجوة واسعة تضم كل الأقطاب المتنافرة في عصبة واحدة، او أقطاب متناثرة في شكل ترابطات مؤقتة ومرنة، يٌلّوح اليها ساعات بالتهديد وأخرى بالإصلاح، وهما وجهان لعملة واحدة. تحولات الى مرحلة سياسية دولية مستحدثة تقع أطرها بين مفهومين علميين وهما (السلوكي - التبعي). ومؤشرات لإضمحلال الإستقلال والسيادة ومسار لصناعة الفوضى الخلاقة او الهدامة.
الفوضى الخلاقة ودبلوماسية الصدمات
لقد ذهب المفكر الإستراتيجي « ليدن» لوضع سياسة العصر الحديث أو الذهبي لإمبراطورية النواة، وتحت شعار الفوضى الخلاقة أو ما يعرف بدبلوماسية الصدمات تمارس ضغوط الهدم والبناء، تغيير شامل كامل في خارطة سايس بيكو، بنفس النسق، مع تغيير الملامح لتلك التقسيمات فبدلا من كونها تغييرات جغرافية فقط، ستكون خريطة تبني على التوجهات والأعراق والفئات والطوائف، خريطة تضع في أطرها الخارجية إصلاحات عديدة تجاه الشرق الأوسط الكبير أو ما يعرف بالمراحل الثلاث: وهي تشجيع الديمقراطية، وبناء مجتمع معرفي، وتوسيع الفرص الإقتصادية، غير أن تلك الأهداف المعلنة تخفي الكثير من ورائها ومنها؛ طمس الهوية والانتماء والثقافة الإسلامية بصفة عامة، والعربية بصفة خاصة، وبرغم كل ما يقال وسيقال ويتجدد ويتطور، فإن الوجهين الرئيسيين للسياسة الخارجية المثلى للنواة تظل على ما هي عليه، في الحفاظ على المرتكزين الأساسيين وهما النفط وامن الطفل المدلل إسرائيل، رغم ما يسوقه البعض بأنه حرص على الإنسانية ودعم خطوات الأمن والسلم الدوليين.
تجمع أدبيات السياسة الخارجية الأمريكية على أنه بعد تلاشي و إحتواء الإتحاد السوفيتي وبعدما تم تجفيف مستنقعاته، توجهت سياسات الولايات المتحدة الأمريكية لقيادة منفردة لهذا العالم – رغم وجود بعض الأقطاب الضاغطة -، الا أن مصالح الولايات المتحدة يمكن حصرها (بالنسبة لنفوذها في الشرق الأوسط) في أمرين أساسيين وهما النفط العربي، وأمن إسرائيل، ويعتبر الأخير أكثر أهمية من الأول، وحيث أن الأول أصبح مضمونا في ظل سياسات القوة والقوانين الدولية من ناحية، وهشاشة الانظمة الوطنية من ناحية أخرى، ومن خلال المحورين سنشهد الكثير من التقلبات الدولية وإعادة رسم المستقبل.
سمات ومـلامح المرحلة
العالم المعاصر هو العالم الذى نعيشه اليوم ونعيه ونتفاعل معه، بل نشكل مستقبله، بدأ هذا العالم، عالمنا المعاصر بالإمكان وصفه بأنه عالم المعرفة وعالم العلم وعالم الوعي، غير أنه لم تُسهم قدراته في السيطرة على مصيره بما يٌوقِف حروبه ويٌنهِي أزماته، بل أصبح الأمن الغذائي والأمني والتعايشي مشكلة كبرى لكافة شعوب العالم . أيضا ورغم القفزات العلمية والتقنية المتسارعة والمتزايدة والتى وصفت بأنها الأكبر منذ نشأة الكون، وبقدر نسب العلماء المتزايدة والتي وصفت بأنها تشكل 3/4 علماء العالم منذ نشأته وحتى عالمنا المعاصر، الإ أن العالم في هذا الزمن يعيش أكثر من ثلاثة أرباع عدد سكانه تحت مستويات الفقر والجوع، وتزداد اعداد نسب الأمية الى ما عدده 5 مليون نسمة سنوياً، كما أن جٌل الاختراعات والقفزات العلمية قد تم إستخدامها في الإضرار بالبقاء البشري وهو ما شهده العالم في الحروب الدائرة والصراعات العالمية التي تجاوزت 2500 نقطة صراع دولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وهذا يؤكد ما ذكره جوزيف كاميللري بقوله « إنتقال الإنسان من الحالة البدائية الى التقنية الضخمة جعل الإنسان هشاً وقابلاً للعطب».
لقد إزداد وتنامى وجود المنظمات الدولية في عالمنا اليوم، كما تم أيضاً تزايد مماثل لوجود شركات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات والتي تقود وتٌسير الدول وفق مصالحها الإستراتيجية في محاولة للعمل على الانحراف بالقانون الدولي العام وتدويل نظم الدولة والسيادة القومية.
نتجه اليوم في ظل النظام المعاصر، وهو نظام شمولي يجسد نشاطات كيانات دولية وتكتلات وشركات متعددة الجنسيات ومنظمات دولية ومكونات عديدة ، تخضع في نهاية الأمر للمركز وتقود ايديلوجيته الليبرالية أو الفوكويامية لتحقيق مكاسب استراتيجية، وتدور في فلك التقارب والتزاوج المؤقت والمرن. هو نظام توافقي عندما ننظر الى الإستقرار، وفوضوي في حالة الدخول الى أزمات أو إختلافات، يصفه « دويرتي وفالتزقراف» بوجوده الفعلي والملموس وهو عبارة عن تفاعل وتداخل الوحدات السياسية القومية والدولية والتى تتأثر وتؤثر بعضها ببعض. نظام نستطيع وصفه بالسلوكي فى عمقه، وبالتبعية فى ظاهره.
يتجه بنا الحال بتقلباته وحراكه وصراعه، الي وجهة جديدة ومغايرة، وذلك للانتقال من سيادة الدولة وإستقلالها - كما هو حال الصراع الليبي والعراقي، وكما كان حال الصراع في السودان والذي انتهى بتقسيمه، وهو ما نشهده في حالتي سوريا واليمن - الى دخول الدولة تحت المظلة الدولية المركزية والإستسقاء من سقياها ان وجد بها ما يبل العطش. إنها نقلة نوعية وتقاسم عميق لتحقيق إستراتيجيات لمفهوم ديني - إقتصادي، بدلا من كونه عسكري – إقتصادي كما هو الحال إبان الحروب السابقة الأولى والثانية، ولكنه يخضع لنفس اليات ومناهج التهديد والوعيد عبر الفجوة او ما يمثلها كــ «حلف شمال الأطلسي» وشركائه، تلويحا وإستخداما، لتحقيق تلك الأهداف بأشكالها وأنماطها المختلفة.
الى أين نسير؟
تشهد الفترة الممتدة منذ نهاية عام 2010، وحتى الآن، حالة من الفوران السياسي والعسكري والانفلات الأمني، وعدم استقرار الجوانب الاقتصادية، وهي عوامل وفواعل بدون شك ستشكل منعطفا اجتماعيا مستحدثا، مما قد يساهم بشكل تدريجي في إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط؛ سواء على المستوى الداخلي، حيث تتداخل المرتكزات بين تعزيز مطالب الإصلاح وبين توسع وانتشار النزاعات العنيفة، أو على المستوى الإقليمي، حيث تدفع هذه التطورات إلى إعادة تشكيل توازن القوى بين الدول العربية داخل الإقليم نفسه، وبينها وبين الدول المجاورة، وتدفع كل تلك الموازين القائمة الى تشكل خارطة شبه جديدة على المستويات المحلية، والشبه إقليمية، وإقليمية ودولية.
ويشير الكاتب ريتشارد يونجس إلى أن المحاولات الحذرة لتوازن المصالح أكدت أن دعم الاتحاد الأوروبي للتغيير كان أقل من المتوقع أثناء وبعد الربيع العربي. ويصف استجابة الاتحاد الأوروبي للتغيير الذي حاق بالعالم العربي بـ«الفأر المتجمد» أمام تغيرات غير متوقعة؛ إذ لم تجتهد أوروبا في استباق الإصلاح، بل إنها أُجبرت على التعاطي معه كضرورة لاستمرار العلاقات لا كفرصة يمكن استثمارها. ففيما يتعلق بتطوير مصالحها الخاصة، تعاملت أوروبا مع «الربيع» العربي على أنه «خليط متذبذب بين الفرصة والمخاطرة»، واستمر هذا المنطق الهش طويلاً، بما يؤكد حقيقة أن «الربيع» العربي لم يكن له تأثير واضح، أحادي الاتجاه على المصالح الأوروبية المحورية وهو ما يؤكد الإنفراد الأمريكي بالنظام العالمي، واضمحلال الأدوار الرائدة لدول في أوقات مضت، الامر الذي قد يحفز دولا أخرى لإختراق الفردية وركودها الركود وتحقيق المصالح.
كما أن تأثير السياسات الأوروبية على الشرق الأوسط بشكل عام كان محدوداً، فلم يكن الحضور الأوروبي كمان كان في العقود الماضية، فمع أنه كان أقوى في ليبيا، إلا أنه كان أضعف في مصر بعد إسقاط نظام الإخوان المسلمين، وهو ما مثَّل خسارة كبيرة للنفوذ الأوروبي في الشرق الأوسط.
يمر عالمنا العربي-الإسلامي اليوم بمرحلة «صعبة ومعقدة» على غرار ما مرت به الصين في القرن الثامن عشر، فلم تحقق ثورات الربيع العربي الكثير ان ثم شيء تحقق، بل إنها أمدت وأطالت وعمقت مفهوم الإحتياج الى الأنظمة الأوتوقراطية من خلال مقارنة الواقع بالماضي، وبالأخص في تلك الدول التي تم التدخل بشأنها (العراق - ليبيا تحديداً)، كما دفعت جهود النواة مسارات الدول لإحكام السيطرة وتقرير مصيرها بواجهات مختلفة كما هو حال المنظمات الدولية يومنا هذا (الفجوات)، مما انعكس علي الأداء والحياة، وأصبحت الحريات ينظر اليها بسلسلة الخيانة (رغم وجود مبررات)، كما أصبح العيش الكريم ترف (غياب الطبقة الوسطي لغياب البرنامج الإقتصادي)، وأصبح الأمن مطلب ( تعميق عسكرة الدولة بدلا من جيشها). وفي ظل التجاذبات غير المتكافئة بين النواة والفجوة، وفي غياب رؤية شاملة لدول وشعوب الفجوة يقع مصير شعوبنا العربية والإسلامية.
لقد عمقت الثورات نظام الفوضى والصراعات بكافة أشكالها تمهيدا لتقسيم دول عربية الى دويلات على غرار ما حدث بالسودان، ومن خلال تغذية مفاهيم الطائفية والدينية والعرقية والتي تصب إجمالا في مخططات وإستراتيجيات النواة (المركز) وضمن خطته المرسومة للشرق الأوسط الكبير.