الأوروبي بعد أن أصبح مهددا جرّاء تداعيات أزمة كورونا، التي شلت الجهاز الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، كذلك موقف المحكمة الدستورية الألمانية الرافضة للتدخل المالي للبنك المركزي الأوروبي لفائدة البلدان الأعضاء المهددة و في مقدمتها إيطاليا، ثالث فضاء اقتصادي أوروبي. و لا تريد المستشارة التي سوف تتولى رئاسة الإتحاد الأوروبي الدورية لستة أشهر في جوان القادم إدارة مجموعة من الدول القريبة من الإفلاس ومشاركتها في مشاكلها الاقتصادية.
وأعلن الجانبان في هذا الصدد عن مشروع دعم للاقتصاد الأوروبي في أربعة بنود يهدف إلى إعادة نشاط الفضاء الأوروبي لمواجهة ركود الاقتصاد المنتظر من قبل رجال الأعمال والخبراء والسياسيين. وخصص ماكرون وميركل 500 مليار يورو كحزمة مالية إضافية لما أقره البنك المركزي الأوروبي والمفوضية لدعم الخروج الآمن من مرحلة الحظر الصحي المفروض على بلدان أوروبا منذ شهرين ودفع اقتصاد البلدان الأعضاء نحو استرجاع نشاطه العادي من أجل مواجهة المنافسة الدولية.
تخطي مخاطر الانقسام والاندثار
أبرزت جائحة كورونا الانقسامات داخل الفضاء الأوروبي و تعامل كل بلد على حدة في غياب التضامن اللازم، بالاعتماد على إمكانياته الذاتية المتفاوتة من بلد لآخر لمجابهة الأزمة حتى أن رئيس المفوضية الأسبق الفرنسي جاك دي لور خرج عن صمته المعهود و نبه يوم 28 مارس من «عودة المكروب» منددا بما اعتبره «الخطر القاتل» للمشروع الأوروبي في صورة ما إذا لم تلتزم يعض الدول بالتضامن الأوروبي. و يعتبر البعض أن ماكرون و ميركل أقدما على زعزعة القناعة اللبرالية المنتشرة في صفوف قادة أوروبا دون ضمان نجاح مساعيهما.
أما موقف النمسا المعارض فقد عبر عنه مستشارها في تغريدة على شبكة تويتر مما يدل على المخاطر القادمة لتحقيق مشروع التضامن المطروح. فقام المستشار سيباستيان كورتز بالتنسيق مع هولندا والدنمارك والسويد المعارضين لاقتسام تسديد الديون على المستوى الأوروبي للضغط على الثنائي الألماني الفرنسي الذي يشكل العمود الفقري لأوروبا. يضاف إلى هذه العراقيل المتوقعة تنامي التقوقع و الشوفينية و صعود اليمين المتطرف كبديل للسياسات الأوروبية المتبعة. الخطر المحدق يتمثل في انشقاق أوروبا بين بلدان الجنوب و بلدان الشمال الذي يدعمه صراحة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. لكن تبقى المفوضية الأوروبية التي سوف تسهر على تحقيق المشروع أمام تحد هام يجعلها ترتكز أكثر من قبل على آلياتها لتحقيق هذا الهدف مع ضمان وحدة الصف.
تغيير للعقيدة الليبرالية الألمانية
قبول المستشارة ميركل بمبدإ اقتسام الديون و توزيع الأموال من بروكسل إلى الدول الأعضاء يعتبر تغييرا جوهريا في عقيدة ألمانيا التي اعترضت في السابق بقوة على هذا التوجه الوحدوي. هذه الخطوة المفاجئة نتيجة للجهود الفرنسية التي قادها الرئيس ماكرون لإقناع المستشارة بحتمية التغيير. وقد قبلت في النهاية أنجيلا ميركل أن تقوم الدول الأعضاء بالتداين في الأسواق بصفة جماعية وأن ترصد الأموال (500 مليار يورو) إلى المفوضية لدعم الجهات و البلدان المتضررة.
و اعتبرت المستشارة أنه «لا بد أن نتحرك كأوروبيين حتى تخرج أوروبا قوية من الأزمة». و يبدو أنها اختارت الخروج من عنق الزجاجة التي وضعتها فيها المحكمة العليا الألمانية عندما تصدت للبنك المركزي الأوروبي في شرائه لديون البلدان الأوروبية المتضررة و في مقدمتها إيطاليا، و اعتبارها أن القانون الأوروبي لا يتمتع بعلوية أمام القانون الألماني. بتغيير موقفها أشارت أنجيلا ميركل إلى أن الخروج من المأزق لا يتحقق إلا بآليات سياسية و لا قانونية وأن إرجاع المشروع الأوروبي إلى سيرورته التاريخية عمل سياسي في المرتبة الأولة يقوم على المبادئ التي تم على أساسها إرساء المجموعة الأوروبية.
تفاعل إيجابي وعقبات يجب تفاديها
وخلافا لموقف النمسا النقدي تفاعلت جل العواصم و الهيئات المشتركة بصورة إيجابية مع التصريح الألماني الفرنسي المشترك. فاعتبرت روما أنه «خطوة في الطريق الصحيح». أما المفوضية، فقد رحبت، على لسان رئيستها أورسولا فان در لاين، بـ«المقترح البناء» معتبرة أن «هذا المقترح يندرج في التوجه الذي تعمل من أجله المفوضية و التي سوف تأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر كل الدول الأعضاء و البرلمان الأوروبي».
أما كريستين لاغارد رئيسة البنط المركزي الأوروبي فقد عبرت عن تقبلها ل «المقترحات الفرنسية الألمانية الطموحة والهادفة». وللذكر فإن البنك المركزي الأوروبي هو الآلية الأساسية التي تم استخدامها خلال جائحة كورونا لدعم الدول المتضررة و شراء جزء من ديونها لمساعدتها على تخطي مخاطر السوق العالمية. و بالرغم من هذا الدعم يبقى أمام المستشارة الألمانية الحصول على موافقة البندستاغ (البرلماني الألماني) لرفع ميزانية المفوضية ب 500 مليار يورو إضافية.
أربعة محاور للتحرك
المشروع الأوروبي الجديد يركز على أربعة محاور كان الرئيس ماكرون أشار في عديد المناسبات إلى ضرورة اعتمادها في مواجهة نظام العولمة. أول ميدان يتعلق بإرساء نظام أوروبي مشترك لمسائل الصحة يشمل ضمان الأدوية والأقنعة والمعدات الصحية ومجابهة الأوبئة. ويمكن للدول أن تتمتع بالاعتمادات المشتركة لتطوير أنظمتها الصحية. ويفتح ذلك الباب أمام تطوير التشريعات المشتركة لضمان نجاح المشروع.
ثاني مجال يتعلق بالاستثمارات ويهدف إلى التحكم فيها لضمان بقاء الشركات الحيوية والإستراتيجية (الصحة والطاقة والدفاع) تحت الراية الأوروبية وحمايتها من رؤوس الأموال الخارجية. ويهدف المشروع، في المقام الثالث، إلى دعم الشركات الكبرى من أجل تشكيل «عمالقة» يكونون قاطرة للاقتصاد الأوروبي في العالم. أما الميدان الحيوي الرابع فيتعلق بالتحول الإيكولوجي. ويهدف إلى «القضاء على استفحال تأثير مادة الكاربون مع حلول 2050» حسب الجانب الفرنسي. ويحاول الثنائي الألماني الفرنسي الحفاظ على التقدم التكنولوجي في هذا الميدان وتسريع التمويلات والإنجازات لأخذ الريادة على المستوى الدولي.
ويحتم هذا التوجه رفع الحواجز الإيديولوجية والقانونية التي كانت بمثابة الممنوعات التي عاقت كل مقترحات تطوير المشروع الأوروبي نحو مزيد من الاندماج والعمل المشارك خارج نطاق المنافسة الذي يفرضه نظام التبادل الحر اللبرالي. الخطوة الألمانية الجديدة تدخل أوروبا في منطق جديد سوف تكون له تبعات على عمل المؤسسات المشتركة ونسق تحركاتها في الأشهر والسنوات القادمة.