في تاريخنا الحديث شاعر الحرية والثورة. وقد غاب منور صمادح عن ساحتنا الثقافية وسجالاتنا الأدبية ولولا فيلم فوزي شلبي بعنوان «بائع الفطائر الفصيح» والذي خصصه للشاعر الكبير للفّه النسيان نهائيا.
ومنور صمادح بعد تركه للدراسة تقلب في عدة مهن وامتهن بيع الفطائر في عدة مدن تونسية. وهو شاعر عصامي من أسرة علمية أصيلة الأندلس ووالده كان عالما أزهريا. وقد أشرف الشاعر في الأربعينات على عدة ملاحق صحفية وكتب في الصحافة وقد تم انتدابه في الإذاعة الوطنية أين أشرف على البرامج الثقافية.
ولمنور صمادح مواقف سياسية هامة فقد عرف بورقيبة في فترة الكفاح الوطني وربطته به علاقة وطيدة. ولكنها تدهورت بعد الاستقلال حيث أصبح الشاعر من أول المعارضين لنظام الاستقلال في نهاية الستينات. فتم إيقافه والزج به في السجن وتعذيبه. مما تسبّب له في بعض الأمراض العصبية وإصابته بالفوبيا ليقضي بقية حياته في عالم من التهميش والعزلة والضياع.
وقد كتب منور صمادح الكثير من القصائد ولعل القصيدة الأكثر شهرة في تونس هي «كلمات» وكثيرون يعتبرونها القصيدة الأكثر أهمية في بلادنا بعد قصيدة إرادة الحياة للشابي. وتقول هذه القصيدة في ما أستحضر:
عنــدما كنت صغيرا كنت أحبو الكلمات
كنت طفلا ألعب الحرف وألهو الكلمات
كنـــت أصـواتا بلا معنى وراء الكلمات
وتخطـــيت سنينــــا عثــرتهـــا الكلمات
أركض الأحلام والأوهـام خلـف الكلمات
وقد تغنّى عديد المغنين بهذه القصيدة لمنور صمادح ومن ضمنهم السيدة سنيا مبارك وزيرة الثقافة من ألحان الملحن أحمد عاشور. ولعل اللحن الذي بقي أكثر شهرة لهذه القصيدة هو الذي قدّمه المرحوم حمادي العجيمي وفرقة الخماسي للموسيقى العربية لدار الثقافة ابن رشيق. وقد اشتهرت هذه الفرقة في بداية ثمانينات القرن الماضي في الأوساط الشبابية بأغانيه الملتزمة أذكر منها أوكا موتوا للشاعر المختار اللغماني وفنان الغلبة من كلمات علي الدوعاجي أو أغنية «لا من عزم روح مشى لبلاده».
وقد جالت بخاطري هذه الأغنية لحمادي العجيمي من كلمات منور صمادح وأنا أطالع منذ أيام كتابا هاما أصدرته الصحافيتان هاديا بركات وألفة بلحسين بالفرنسية وبعنوان
« les nouveaux mots qui font la Tunisie» عن دار النشر (سيراس) للصديق كريم بن إسماعيل. وهذا الكتاب هو عبارة عن جولة في ستين كلمة أو تعبيرة شكّلت منذ خمس سنوات المجال الجديد للتعبير والحديث عن الأفق السياسي والاجتماعي الذي خلقته ونمّته الثورة التونسية والذي عرف تطورا كبيرا ليشمل كل البلدان التي عرفت الربيع العربي.
وأهمية هذا الكتاب تكمن في أنه يؤرخ لثورة الكلمات التي صاحبت هذا التحول السياسي الهام الذي عرفته بلادنا. فكما تشير الكاتبتان في مقدمة هذه الرحلة في الكلمات فقد عرفت بلادنا فترة صمت طويلة صاحبت فترة الاستبداد فتراجع الحديث والكلمات من الفضاء العام لينحصر في المجال ... ليترك المجال لهيمنة الصمت وانتصار الهمهمة الخافتة... الثورة قطعت حبل هذا الصمت القاتل لتنتج كمّا هائلا من الكلمات ... التعبيرات التي لم نتعوّدها في السابق والتي أصبح يرددها الشارع في كل لحظة والتي تمكنت من الفضاء العام وسبر كل خفاياه. وكأننا جعلنا من كلمات منور صمادح شعارنا عندما يقول:
مـا الذي تــرجــوه من دنيــاك لولا الكلمات
أنــت إنسان لـــدى الناس رسول الكلمات
فتكلــــــم وتألـــــــم ولتمــــت في الكلمات
وإذا مـــا عشــــت فيــهم فلتكــــن الكلمات
شاهــــــد أنت عليهــــم وعليــــك الكلمات
إذن كان هذا اختيار الكاتبتين اللتين انحازتا إلى كلمات الثورة وقامتا بمسح هام وشامل لكل التعبيرات والكلمات العامة التي عرفها الشارع والفضاءات العامة لحفظها من الضياع ومحاولة إدراجها في مشروع بناء الذاكرة الجماعية لهذه الفترة الثورية في تاريخنا المعاصر. فكما كانت للحركة الوطنية والكفاح ضد المستعمر تعبيراتها ومرحلة بناء الدولة الوطنية كلماتها كالتقدم والازدهار والوحدة الوطنية كانت للثورة كذلك تعبيراتها ولغتها.
وقد جمعت الصحافيتان ستين من أهم المفردات والتعبيرات والكلمات التي عرفناها بعد الثورة وفي هذه المرحلة هي البناء الديمقراطي. فنجد الكثير من هذه التعبيرات التي أثثت فضاءنا اللغوي في السنوات الأخيرة أذكر منها على سيبل المثال ولا الحصر تعبيرات كـــ: «الشعب يريد إسقاط النظام»، «عمار 404»، «التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق»، شغل، حرية كرامة وطنية».
والهام في هذا الكتاب لا يكمن فقط في توثيق هذه الكلمات والتعبيرات الجديدة بل كذلك في المنهجية التي تم إتباعها من طرف الكاتبتين وهي في رأيي منهجية علمية اعتمدت العديد من اللقاءات مع الفاعلين السياسيين والباحثين والمثقفين لتحديد ظروف ظهور هذه الكلمات والتعبيرات ومحتواها وتطورها وارتباطها بالوضع السياسي العام.
وقراءة هذا الكتاب إلى جانب متعتها وعمق دراستها ومساهمتها في بناء الذاكرة الجماعية في هذه الفترة الهامة من تاريخنا المعاصر فقد مكنتني من التفكير في علاقة المفردات والكلمات والإبداع واللغة بشكل عام بالسياسة والحقب والمسارات الثورية في تاريخ الشعوب. ولئن أكد الباحثون في اللسانيات واللغة عن هذه العلاقة العضوية بين الثورة والزخم السياسي والكلمات والمفردات فإن الشعراء كانوا من الأوائل الذين أسسوا وانتبهوا لهذه العلاقة فللكلمات واللغة تأثير وسحر خاص لكونهما تختزلان الشعور الدفين للناس وأحلامهم وآمالهم وعبق الثورة القادم. ونعود إلى منور صمادح الذي يؤكد عمق هذه العلاقة بين اللغة والثورة وأهمية الكلمات في تأسيس وكتابة تاريخ الانتفاضات والأمل القادم فيقول:
يهــــدر الشاعر في الناس وتحيا الكلمات
ويموتـــون بلا ذكرى وتبـــــــقى الكلمات
ومنور صمادح ليس الشاعر الوحيد الذي انتبه وأكد عمق العلاقة بين الفعل الاجتماعي واللغة. محمود درويش كذلك أكد على هذه العلاقة في قصيدة خصصها للغة وعنوانها «أيها المارون بين الكلمات العابرة». ويقول درويش في هذه القصيدة والتي كانت من القصائد التي أثارت أكبر الاستياء لدى مثقفي العدو الصهيوني:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا أنكم لن تعرفوا
هكذا تؤسس اللغة والكلمات للفعل الاجتماعي والثورات فقد أكد لا فقط الباحثون في اللسانيات هذه العلاقة العضوية بل كذلك المبدعون والشعراء. وهنا تكمن أهمية الكتاب بين أيدينا حيث أن هادية بركات وألفة بلحسين قدّمتا مساهمة هامة من خلال هذه الدراسة في ربط اللغة بالفعل الثوري وتأكيد هذه العلاقة واختزال الكلمات للحركة الاجتماعية.
وفي رأيي فإن علاقة اللغة والكلمات بالثورة والصيرورة الاجتماعية يمكن أن نجدها على أربع مستويات:
المستوى الأول يهم الكلمات والتعبيرات التي تختزل الغضب الشعبي والحراك الثورية ضد الأنظمة القائمة. وقد قدمت لنا هادية بركات وألفة بلحسين العديد من التعبيرات والشعارات التي عبّرت بوضوح عن حالة الزخم الثوري ضد النظام السائد وقرب نهايته نذكر منها «الشعب يريد إسقاط النظام» و»عمار 404» و»الثورة». وكانت لهذا الزخم والحراك الثوري مطالب أساسية تهم البطالة والتشغيل من خلال شعارات كـــ»التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق» و»شغل، حرية وكرامة وطنية»، و»ديقاج» الذي نادت به المظاهرات الشعبية في أولى أيام جانفي 2011.
أما الجانب الثاني في علاقة اللغة بالثورة فيهمّ الكلمات والتعبيرات التي تحكي المعاناة اليومية للناس وتشير الكاتبتان إلى عديد التعبيرات كحوماني وهي عنوان أغنية الراب للمطرب «كافون» والتي تشير إلى الضياع الذي يعاني منه أبناء الأحياء الشعبية. كما أشارتا كذلك إلى كلمة الحرقة في إشارة إلى مأساة المهاجرين غير الشرعيين والبوليس السياسي والعنف الذي سلّطه على المعارضين السياسيين.
الجانب الثالث في علاقة اللغة بالثورة والزخم الاجتماعي يخص التحديات الجديدة التي تفتحها هذه الفترات الخصبة والمليئة بالانتظارات والتخوفات وهنا تؤكد الكاتبتان على عديد المفردات الجديدة والتي أشارت إلى نمو ظواهر جديدة في بلادنا كالإرهاب والجهاد والزواج العرفي وروابط حماية الثورة.
أما الجانب الرابع والأخير فيخص الآمال والأحلام والمدى الجديد الذي تفتحه الثورة للمستقبل. وهنا تؤكد الكاتبتان على بعض التعبيرات الجديدة كالتحول الديمقراطي والنخبة والمجتمع المدني والتي دخلت إلى الخطاب اليومي وأصبحت في جوهر العملية السياسية وتسعى إلى بناء الجمهورية الثانية التي تعزز الدولة الوطنية بالبناء الديمقراطي.
لقد فتحت الثورة فترة مخاض هامة على عديد المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقد صاحبت هذه التطورات حركية وثراء لغوي لا مثيل له في بلادنا. وقد نجح هذا الكتاب في تدوين جزء مهم من هذا الزخم اللغوي مما سيساهم في بناء وتدوين الذاكرة الجماعية لبلادنا في هذه الفترة التاريخية وإعطاء مفردات ولغة العصر القادم في ربوعنا.