صدرت هذه الرواية منذ أكثر من أربعين سنة. إلا أن كلماتها وخاصة حوار السجين مع نفسه بقي معنا سنوات طويلة وبصفة خاصة في وصفه لصموده عندما يقول: «أنا ذاك الإنسان» لا لست إنسانا، السجن في أيامه الأولى حاول أن يقتل جسدي، لم أكن أتصور أني أحتمل كل ما فعلوه، لكن احتملت، كانت إرادتي وحدها التي تتلقى الضربات، وتردها نظرات غاضبة وصمتا. وظللت كذلك، لم أرهب، لم أتراجع، الماء البارد، ليكن، التعليق لمدة سبعة أيام، ليكن، التهديد بالقتل والرصاص حولي تناثر، ليكن، كانت إرادتي هي التي تقاوم». هذه الكلمات وأخرى كثيرة من «شرق المتوسط» جعلتنا نلمّ....بمعاناة المساجين السياسيين والتعذيب والعنف الذي سلّط عليهم لا لشيء إلا لأنهم دافعوا عن حقهم في التنظم والعمل السياسي. أعطت هذه الرواية صورة عن جيل الشباب الذي عرف التجربة السجنية في تلك الأيام وعن الجرح البليغ الذي خلّفته هذه التجربة الذاتية عند العديد من المساجين.
وقد فتحت هذه الرواية مجالا جديدا للإبداع الأدبي في البلاد العربيةأصبح يعرف بالأدب السجني وخلّفت لنا العديد من الروايات الهامة والتي دخلت في تاريخ الرواية العربية. فكتب صنع الله إبراهيم «مذكرات سجن الواحات» والتي روى فيها تجربة نفي المعارضين السياسيين للنظام الناصري. ونذكر كذلك رواية «الزنزانة رقم 10» للضابط المغربي السابق أحمد المرزوقي والمتورط في محاولة الانقلاب ضد الملك الحسن الثاني سنة 1971 ليقضي 18 سنة في سجن تازما مارت الرهيب. وصدرت هذه الرواية سنة 2001 لتعقبها كتب وروايات كثيرة أثثت لتجربة سنوات الجمر في المغرب لعل أهمها كتاب «السجينة» لمليكة أو فقير ابنة الجنرال محمد أفقير أحد قادة المحاولة الانقلابية ضد الملك الحسن الثاني والذي تحكي فيه معاناة عائلتها عندما تم إرسال كل العائلة إلى سجن سري في الصحراء بعد إعدام والدها. وقد قضت العائلة 15 سنة في ظروف قاسية. وكان لهذا الكتاب السيرة الذاتية صدى كبير وقد ساعد الكثير من المناصرين والمدافعين عن حقوق الإنسان والمدافعين عن سجناء الرأي.
وكان لبلادنا نصيبها من الإنتاج الأدبي في هذا المجال والذي صاحب وأرّخ للتجارب المريرة لسجناء الرأي. ولعل أول عمل في هذا المجال هو رواية «كريستال» للمناضل والسجين السابق جيلبار النقّاش. ثم أتت عديد الروايات والكتب الأخرى نذكر منها رواية «الحبس كذّاب والحي يروّح» للصديق فتحي بلحاج يحي وكتاب «التحرر من السجن» للمرحوم المناضل أحمد العثماني والصادر عن دار محمد علي لصاحبها الصديق نوري عبيد. وبعد الثورة تواترت الإصدارات من الإسلاميين واليساريين ونذكر عديد الكتب والروايات التي تدخل في خانة الأدب السجني أذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر رواية سمير ساسي «برج الرومي- أبواب الموت» وحميد عبابدية في «القلب جمرة» وكمال الشارني «أحباب الله».
وساهمت هذه الروايات وهذه السيرة الذاتية في تكوين جنس أدبي وثقافي يسعى إلى التعرض لتجربة الاعتقال من الناحية الأدبية. وتتجاوز هذه المحاولات جانب الشهادة وتصوير معاناة المساجين وراء القضبان وتأريخ هذه المرحلة الهامة في تاريخنا المعاصر لتصبح الكتابة أداة للغوص في عمق النفس ومحاولة التخلص من الجراح والآلام بعد الفظاعة وبشاعة التعذيب الذي تعرض له هذا الشباب في سجون الأنظمة الوطنية بعد الاستقلال.
ومحمد الصالح فليس المناضل السياسي والذي تعرض للاعتقال والمحاكمة من طرف محكمة أمن الدولة لأربع مرات بين 1968 و1980 من أجل أنشطته السياسية يُعدّ اليوم من أهم المساهمين في هذا النوع الأدبي. فقد أصدر رواية أولى بعنوان «عم حمدة العتّال» سنة 2010 عن دار نقوش عربية لصاحبها الصديق المنصف الشابي زميل الكاتب في الاعتقال. وإن خصص محمد صالح فليس هذه الرواية للحديث عن والده وصموده خلال فترة الاعتقال فقد تعرض لمحنته وتجربته القاسية والمريرة مع السجن وسجانيه. ويعود محمد صالح فليس من جديد مع إصدار جديد منذ أيام بإصدار جديد بعنوان «سجين في وطني» عن نفس الدار، دار نقوش عربية، يقع في أكثر من 500 صفحة، يعود الكاتب لنفس التجربة/ المعاناة وكأن كتابه الأول لم يكن كافيا لبناء سلامه الداخلي والتخلص من آلام وجراح هذه التجربة المريرة. ويعود محمد صالح فليس إلى نقطة الانطلاق في تجربة المعارضة والتي أدت إلى القطيعة مع هذه الأنظمة بداية تجربة رفض التسلط والاستبداد والتي دفعت بآلاف الشباب الرافض للثورة في تلك الأيام. وهنا يشير المؤلف إلى أن الانطلاق في المعارضة نتج عند هؤلاء الشباب عندما حصلت لديهم القناعة بعجز رجال الاستقلال عن الإيفاء بما التزمت به حركة التحرير من إسعاد الشعب وضمان مستلزمات الحركية الاقتصادية والرقي الاجتماعي والنقاء السياسي وتحكيم القانون حاميا للحقوق وفيصلا بين المواطنين وراعيا للعدل».
ويؤكد هؤلاء الشباب في أدبياتهم وتحاليلهم على أزمة السلطة الوطنية الحديثة وعدم قدرتها على الإيفاء بوعود التنمية والحرية. ويضيف محمد صالح فليس ليشير إلى الآراء التي كانت تتفاعل في آراء هؤلاء الشباب «ألهذا المآل المواطني الملموس انبرى آباؤنا يقاومون المستعمر لنيل الاستقلال الذي يسجن اليوم الكرامة ويدمّر الأمل ويلوي رقبة الشباب الذي لا يقبل بأبوية حقيرة لا تختلف في شيء عن أبوية «سيدْنا» محمد الأمين باي».
كانت هذه الآراء الراديكالية وروح الرفض والثورة لدى الشباب المتشبّع بآراء وأفكار ثورات الشباب في العالم قادت إلى القطيعة مع الأنظمة القائمة لتبدأ مرحلة القمع. فيقول الكاتب «يا إلاهي ! لم يمض على استقلال سوى اثنا عشرة سنة ! ولم تخل سنة واحدة منها من محاكمة سياسية أو أكثر ذبحت فيها العدالة لأن الإرادة السياسية قد طوّعتها والتفّت عليها فقطعت كل أنفاسها».
ويتحول القمع تدريجيا إلى استبداد وستتمكن آلة التعذيب من أجساد هؤلاء الشباب الغضة لتصل فيها مخالبها وعنهجيتها وهنا تلتقي كل الروايات وكل السير الذاتية لوصف عنف وبشاعة هذه الآلة. مواقف يقشعر لها البدن ويندى لها الجبين. يقول محمد صالح فليس في كتابه واصفا إحداها «دامت حصة الضرب تحت التعليق مدة أربع أو خمس ساعات أو أكثر. لم يفقدها الزمن من ضراوتها وفظاعتها شيئا... هدفهم الأول كان تكسير الصمت كمبدأ.. إذ بعد تواتر الصياح وإطلاق الصرخات والشتائم رضخت رغما عن إرادتي لقبول الكلام ودخلت في لعبة التهرب من الإجابة على مكان تواصلي مع رفيقي محمد الشريف الفرجاني.. حاولوا أن ينزلوني لأمشي حتى يدور الدم في أطرافي ولكن رجلي تحولتا إلى مخدتين منتفختين عاجزتين عن المشي رغم الماء البارد الذي سكب عليهما وحولهما...».
وتتوالى مشاهد التعذيب والعنف والعنهجية وتختلف الأماكن والتواريخ ولكن يبقى الهدف واحدا وهو إنسانية «المُحتفى به» حسب تعبير زبانية الأمن والأنظمة. ويعود محمد صالح فليس ليشير «لم يترك لدي أي مكمن من مكامن آدميتي، آلموني بدون حدود، وزرعوا الأوجاع في كل ثنايا بدني بلا حساب، وعطلوا وظائفي الجسدية الطبيعية إلى حدود الشلل.. لم أعد أملك يدين ولا رجلين، وأضحى جسدي عبارة عن ركام من الأجزاء التي لا علاقة لبعضها بالبعض الآخر، رأسي كبطاح بنزرت القديم عندما تنقطع سلاسله داخل دوار مجنون.. التهمتني حاجة مسعورة للنوم، لم يعد لدي إحساس ثابت تحت ثقل الآلام المتكدسة على ما تبقى من قدرات التقدير لدي، أصبحت ضريرا/ كسيحا، مشلولا، ومقعدا...».
وبالرغم من هذا العنف وهذه العنهجية التي ترمي لخلع الآدمية على الآخر فإن هذه الروايات والسير الذاتية تزخر بقصص الصمود وتحدي هؤلاء الشباب لهذه الآلة. يقول محمد صالح فليس «وبعد أن تمهّرنا في الأساليب الاعتقالية استعملنا الحيل المتعارضة وطورنا بعضها وابتدعنا البعض الآخر في إطار الدفاع عن آدميتنا وحقنا في رفض الموت، والعزلة والانقطاع عن العالم». وهذا الصمود يتطلب صفات معينة يعمل كل المساجين السياسيين على تنميتها ودعمها. ويشير محمد صالح فليس على أن «عدة السجين السياسي صبر، والحفاظ على الرأس مرفوعا ومواجهة الأوضاع برباطة جأش وبلا أنين وعويل وتعلم قراءة سورة الوطن، وقلب علاقات القوى لتحويل الخوف من مرمانا إلى مرمى الحاكم المرتجفة يداه».
ولعل أحد أهم آليات الصمود في هذه المعاناة هي الثقافة والقراءة والكتابة والتي مكّنت العديد من السجناء من إعادة بناء الذات. ويشير فليس في كتابه «التهمت من ناحيتي قصتين دفعة واحدة. وخفتت تبعا لذلك نقاشاتنا لتفسح المجال لاختلاء كل منا بذاته في إطار قراءات
أعادت إلينا جانبا لا يستهان به من آدميتنا بعد أن خطفتها منا خرافة سرية الأبحاث». وحتى للغناء والشعر مكانهما لمواجهة هذه المحنة ويكتب فليس «وأقضي ما تبقى من بداية سهرتي متناغما مع ذاتي ألوذ بالغناء والموسيقى والشعر لأسامق وضاعة فعل القمع وأترفع عن فاعليه والمدافعين عنه والآمرين به أيا كانت مراتبهم وألقابهم ومكانتهم».
هكذا يصوّر «سجين في وطني» لمحمد صالح فليس بدقة هذه المرحلة العصيبة التي مرت بها بلداننا وكل المآسي والجراح التي عرفتها مجموعات كبيرة من الشباب كان هدفها الوحيد فتح الفضاء العام أمام التعدد واحترام الرأي الآخر.
وقد ساهمت هذه الروايات والسير الذاتية في الأدب السجني في فتح الأبواب عن هذا المسكوت عنه في ذاكرتنا الجماعية للاعتراف به ومحاولة التصالح معه ليصبح جزءا من تاريخنا نعتبر بأخطائه ونلتزم بعدم العودة إليه بتاتا. ولعل أحد أهم ما قدمته لنا الثورات العربية هو فتح هذا التاريخ القريب ورفع المحظور الذي شابه لسنوات لبناء المستقبل على أساس رفضه.
وبالرغم من المآسي والجراح لعل هذه التجربة القاسية كان لها تأثير إيجابي في تأكيد ثلاثة مبادئ أساسية للعقد السياسي الجديد لما بعد الثورات العربية. المبدأ الأول هو الديمقراطية والتعدد وجعلهما مبادئ أساسية في العمل السياسي في بلداننا بعد أن هيمن التسلط والاستبداد لسنوات طويلة. المبدأ الثاني هو رفض التعذيب وإخراجه نهائيا من مجالنا السياسي واعتبار احترام الذات الإنسانية مبدأ عاما لا يمكن التخلي عنه مهما كانت الأسباب. المسألة الثالثة هي رفض الإعدام. فقد عرف المساجين السياسيين المحكومين بالإعدام وعاشوا معهم اللحظات العصيبة التي يعرفونها لما يدخلون المرحلة النهائية في انتظار تنفيذ هذا الحكم. هذه التجربة القاسية ولّدت و قناعة بضرورة العدول عن هذا الحكم. يشير فليس في كتابه «وقد ساعدني ما عشته في هذا الفضاء لأشهر عديدة، تجاوزت السنتين في المحصلة، على تقعيد قناعاتي الفكرية والثقافية في معارضة عقوبة الإعدام بما هي عقوبة مشطّة ووحشية وانتقامية فضلا عن أنها قصووية وإطلاقية لا تحتمل أي مجال للتنسيب أو التراجع».
لقد لعب الأدب السجني دورا كبيرا في تعرية التجربة الأليمة التي مر بها المعارضون السياسيون اليساريون كما الإسلاميون وساهم في كشف الغطاء عن المسكوت عنه في ذاكرتنا الجماعية. إلا أن هذه التجربة وبالرغم من آلامها وأحزانها لها جانب إيجابي باعتبارها فتحت لنا مرحلة تاريخية جديدة تكون فيها الديمقراطية والتعدد والحرية واحترام الذات الإنسانية أسس العقد السياسي الجديد في بلداننا.