إلى المترشحين للانتخابات الرئاسية المبكرة: الحريات الفردية حق «موش مزية»

للأسف، يبدو ان الساسة في تونس، خاصة من يعرضون أنفسهم علي الناخبين لم يدركوا بعد أهمية اللحظة التاسيسة التي

تعيشها البلاد، وهي علي أبواب استحقاق رئاسي سابق لأوانه.

خلال الأيام المنقضية من عمر الحملة الانتخابية استمع التونسيون الي مرشحيهم الـ26 او من يمثلهم واطلعوا علي البرامج والوعود الانتخابية، ومن لم يطلع بشكل مباشر مكنته المناظرات مما فاته، وهو ليس بالكثير، فجل من ترشح للاستحقاق الانتخابي للرئاسية بنى حملته علي برامج اقتصادية واجتماعية بالأساس، وغاب عنه ان هذه الملفات اليومية هي من صميم صلاحيات الحكومة، اي ان مجال التسويق لها هو الانتخابات التشريعية التي سيختار فيها التونسيون بشكل غير مباشر أغلبية الحكم القادمة.

هذه الأغلبية وعلي عكس رئيس الجمهورية تعرض نفسها للناخبين ببرنامج يعتني بمعاشهم اليومي في كل أوجهه الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، علي المدى القصير والمدى المتوسط والبعيد، وهذا لا يعني ان الملفات الكبرى تغييب عن الاستحقاق التشريعي لكنها لم تعد آلية الفرز الأساسية فيه.

في المقابل هي آلية الفرز في الاستحقاق الرئاسي، سواء المبكر كما هو الحال اليوم او العادي، فالملفات الكبرى التي تعالج لتحديد الخيارات الأساسية علي المدى المتوسط والبعيد، كان يجب ان تكون من ابرز محاور الحملات الانتخابية للمترشحين في هذا الاستحقاق.

فالتونسيون وهم يتوجهون في الـ15 من سبتمبر الجاري لانتخاب رئيس في الدور الاول من الاستحقاق، يتوجهون لانتخاب شخصية ابرز صلاحياتها انها ضامنة لاحترام الدستور وتطبيقه، اي أننا نتجه الى انتخاب مرشح يفترض ان ما يحدد منح الثقة له او لغيره، هو الطرح الذي يقدمه في هذا الصدد. وهنا الامر لا يقتصر فقط الملفات المتعلقة بالأمن القومي والخارجية، وهي من صلاحيات الرئيس- فهذه الملفات الخيارات فيها واضحة وهامش الاختلاف بين المترشحين يكاد ينعدم أحيانا، خاصة اذا كانوا من نفس العائلة السياسية.

هذا دون اغفال ان هذه الملفات هي في جزء هام منها تقنية ولها ضوابط واكراهات تجعل معالجتها واتخاذ الخيارات فيها محكومة مسبقا ولا يمكن ان يختلف الأمر بين رئيس او اخر الا في التفاصيل- وهي وان كانت مهمة بشكل كلي الا ان يد الرئيس فيها مغلولة.

المجال هنا ليس للخوض في التشابه بين تصورات المترشحين في ملف الأمن القومي والخارجية وانما في إهدار فرصة جعل الاستحقاق الانتخابي الراهن لحظة تاسيسة، اي جعل الانتخابات الرئاسية بمثابة مناسبة للفرز بين مرشحين يقدم كل منهم تصورا لكيفية معالجة ملفات تتعلق بالقضايا الدستورية او القضايا المجتمعية الكبرى. اي ان الانتخابات الرئاسية مناسبة دورية كل خمس سنوات للاجابة عن سؤال «كيف نعالج أسئلة راهنة تتعلق بقضايا كبرى واستراتيجية؟».

فالإجابة عن هذا السؤال ستحدد اي خيارات نتبعها في الرئاسية وهذا بدوره سينعكس بشكل كلي انطلاقا من الاستحقاق الحالي علي الانتخابات التشريعية والأغلبية التي يمنحها التونسيون للفائزين، اي أننا امام مناسبة لنختار رئيسا للجمهورية ولاحقا نختار منحه الأغلبية في المجلس من عدمها، اي ان الناخبين ستكون لهم القدرة الفعلية علي تحديد كيفية ادارة الشان العام، ليس وفق وعود جوفاء وانما تصورات وخيارات لما نرغب ان تكون عليه تونس والمجتمع خلال السنوات القادمة، اي الحسم نهائيا في ملف تنزيل الدستور وما ينص عليه من حقوق وحريات وقطع الطريق امام الانتكاسة.

هذه اللحظة التأسيسية للأسف أهدرت باختيار المرشحين للرئاسية، لدوافع عدة، اللعب بقواعد انتخابية مختلفة لا تسمح بتمكين الناخب التونسي من ان يكون خياره محددا لما نريد ان تكون عليه تونس، وإنما حددت خياراته بين مرشحين كل منهم يقدم وعودا بكيفية تسير الشان اليومي، النقل الصحة التشغيل... الخ.

اي ان الناخب أمام عروض متشابهة في منطلقها، وهي محاولة إرضائه ونيل صوته ووعده بجنان عدن حتي وان اقتضي ذلك وعده بما يتعارض مع مهام الرئيس ودوره، وهنا يبرز بالأساس موقف المترشحين من ملف أساسي وهو الحريات الفردية.

اذ ان جل من عرض نفسه علي التونسيين تعمد معالجة هذا السؤال من مقاربة نفعية، فهي اما التجاهل لعدم إثارة غضب اي قاعدة انتخابية، او اختيار التماهي مع ما يظن أنه موقف الأغلبية. وهنا جل من قدم تصوره في ملف الحريات يعتقد ان الأغلبية ضدها، فحرص اما علي معاداتها او القول بان إثارتها خاطئ وليس توقيتها.

اي إننا اليوم امام حتمية اختيار بين مرشحين لمنصب رئيس الجمهورية الذي يفترض ان يكون ضامنا للدستور، بعضهم يتبنى مقولات وتصورات مناقضة لهذا الدستور خاصة المتعلقة بالحريات الفردية، التي للأسف مايزال جزء من الطبقة السياسية في تونس قاصر عن استيعابها بكليتها دون الوقوع في الانتقاء اي حريات فردية أيها ندعم وايها نعارض.

وكان المجال يمنح للسياسيين أفضلية الانتقاء اي «حق» يقع منحه للتونسيين واي حق يمنع عنهم، في ظل انتهاك صريح للدستور الذي حسم الامر ومنح التونسيين وفق فصوله حقوقهم الفردية ولجم يد الدولة عنها وعنهم.

اليوم كان من الافضل ان تكون اليات الفرز في الانتخابات الرئاسية الراهنة متعلقة بمن يتبنى تصورا يحمي هذه الحريات والحقوق وكيفية ملائمة التشريع التونسي مع روح الدستور ونصه في هذا الصدد، وكان الأجدر بالمترشحين ان يتحلوا بالجرأة للدفاع عن هذه القضايا اما بمقاربات فلسفية او دستورية ويقدم للتونسيين خارطة طريق مفصلة عن كيفية تنزيل هذا الحق الدستوري وكيف يقع تطوير تشريعاتنا لتحترم الفرد وتحدد كيفية ادارة الفضاء العام وحدود مشاركة الفرد فيه وضوابطها، في اطار فهم فعلي لماهية البناء الديمقراطية. الذي من ركائزه حماية الحريات الفردية باعتبار انها حق.

اي ان الديمقراطيات لا تقف عند اختيار من يحكم واي برنامج اقتصادي يسيره، بل هي تحديد لخيارات مجتمعية كبري تتعلق بكيفية ادارة الفضاء العام وكيفية مشاركته بين افراد مختلفين متنوعين كل منهم يتمتع بحرياته الكاملة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115