لقد لعب المفكرون والمصلحون منذ القرن التاسع عشر دورا مهما في ولادة المشروع وبروزه ونموه منذ الحركة الاصلاحية الأولى - وسيأخذ السياسيون وبصفة خاصة مناضلي الحركة الوطنية المشعل منذ بدايات القرن العشرين لمواصلة بلورة وتطوير هذا المشروع والذي سيكون أساس الدولة الوطنية - إلا أنه ولئن أعطت كل الدراسات والكتابات التاريخية للمفكرين والسياسيين حق دورهم فإن دور الفنانين والمبدعين بقي مغمورا.
وتهدف هذه المقالات ومن خلال تقديم بعض الوجوه الهامة في المسيرة الابداعية في بلادنا اعطاء الفنانين دورهم والتعريف بمساهماتهم الهامة في تشييد صرح هذا المشروع الحضاري والسياسي.
وسأخصص هذا المقال لأحد أهم الناشطين في الساحة الثقافية في بلادنا وهو الصديق المنصف ذويب والمنصف هو أحد الفنانين القلائل الذين نجحوا في الخروج من الحلقة الضيقة والنخبوية التي يدور فيها عديد الفنانين ولقاء الجمهور العريض بعد تقديمه لمسرحيتي «المكي وزكية» و«في هاك السردوك نريشو» مع الممثل الكبير لمين النهدي.
ألتقي المنصف ذويب بطريقة مستمرة لترشف القهوة في - احدى مقاهي مدينة المرسى التي اختارها للسكن أو للغداء في - أحد المطاعم الصغيرة ولكن اللذيذة - وما يميز المنصف الى جانب نكته وخفة روحه مما يجعل الوقت معه يمر سريعا هو بحثه الدائم عن مشاريع ثقافية جديدة وعمله المتواصل من أجل تطوير تجارب جديدة واقناع مؤسسات وناشطين ثقافيين في - سفره المتواصل وتيهه في - مجال الابداع الثقافي - فالمنصف يؤكد ويعتبر أن الضياع والتيه هما بدايات الابداع والخلق.
ولم يكن المحيط العائلي يهيئ المنصف لهذه الرحلة الجميلة وهو ابن عائلة من البحارة كان نافذتها الوحيدة على العالم هي جهاز راديو وحيد يستعمله الوالد في سماع الأخبار.. وستكون المدرسة اطلالة المنصف ذويب الأولى على الفن.. وسيكون ضمن الفرقة التي ستعد مسرحية آخر السنة من اخراج ممرض المدرسة والتي سيأخذ فيها المنصف أول دور له في سن العاشرة وقد أتقن المنصف لعب هذا الدور الى درجة أن مدير المدرسة ذهب الى منزله وشكر الوالد وأسر له أن لابنه موهبة كبيرة مما جعله يقبل توجهه نحو الميدان الفني..
وستتواصل هذه الرحلة مع الابداع في ميدان السينما مع السينمائيين الهواة ثم حركة نوادي السينما في مدينة صفاقس والتي عرفت حركية ثقافية كبيرة في تلك السنوات كما سيعرف المنصف ذويب في خضم هذا الحراك الثقافي العمل السياسي بفعل ارتباط الحركات الثقافية بالحركات السياسية لينال نصيبه من التتبعات ويقع رفضه وطرده من جميع المعاهد التونسية اثر حركة فيفري 1972 مع عديد الشباب والمهتمين بالشأن الثقافي في تلك الفترة كالمخرج السينمائي محمد دمق..
وبعد هذا الطرد سيتحول المنصف ذويب الى فرنسا حاضنة الوافدين في تلك السنوات ما بعد ثورات الشباب في سنة 1968 وسيعرف هناك تجربة جامعة vincennes والتي شكلت في سبعينات القرن الماضي مخبرا علميا وفنيا حيث التقى أهم مفكري فرنسا لبناء احدى أهم التجارب العلمية والفكرية..
ورجع المنصف ذويب الى تونس سنة 1976 ليبدأ رحلة جديدة وفصلا جديدا في سفره وتيهه في عالم الابداع وكانت بدايات هذه المرحلة غنية باللقاءات وبالتجارب ولعل أهم تجربة هي التي سيخوضها مع الأمين النهدي والتي ستكون في بلادنا نقطة انطلاق لتجربة One man show وتجربة تطوير المسرح الشعبي فكانت تجربة «المكي وزكية» والتي شكلت ثورة مسرحية كاملة وتم عرضها 7 سنوات بدون توقف ثم جاءت تجربة «في هاك السردوك انريشو» والتي كان اسمها الأصلي «فلوس الشعب»..
وكانت هذه المرحلة ثرية جدا من ناحية الابداع ولم تقتصر على العمل المسرحي.. فخاض المنصف ذويب تجربة العمل والاخراج السينمائي والتي انطلقت من الشريق القصير «وكر النسور» الذي حاز على جائزة في مهرجان قرطاج ثم جاء «حمام الذهب» و«الحضرة» و«التربة» و«سلطان المدينة» ليأتي بعده عمله الهام «التلفزة جاية»...
وسيخوض كذلك المنصف ذويب تجربة الانتاج التلفزي ليخرج في رأيي أحد أهم الانتاجات حول التراث الفني والموسيقي في بلادنا وهو مسلسل «يا مسهرني» والذي صور فيه تأثير الفن والموسيقى المصرية في بلادنا ثم بروز وظهور صورة فنية تونسية منذ الثلاثينات لتنهي هذه الهيمنة ولتبرز كتابة فنية خاصة وتونسية والذي سيتبلور في الخمسينات في أعمال وابداعات الرشيدية وصليحة وخميس ترنان ومحمد الجموسي وصالح المهدي ورضا القلعي لتضفي رونقا خاصا في الابداع...
وبعد هذه التجارب المتعددة لن يهدأ بال هذا المبدع orchestre وسينطلق بعد الثورة في تجربة جديدة وهي احياء فضاء فني خاص وهو مسرح وقاعة سينما ciné vogue في ضاحية الكرم الشعبية...
وكان الحديث بعد استعراض أهم مراحل هذه الرحلة وهذا التيه والضياع في الابداع مع المنصف ذويب حول ما تبقى منها من أفكار وتصورات وآراء وان كان من الصعب استخلاص هذه الدروس والنتائج فإنه من الممكن الاشارة الى أهمها...
النتيجة الأولى تهم دور المدرسة في العمل الفني والابداع فقد كانت المدرسة النافذة الأولى للمنصف على الفن وأتاحت له التعرف على عديد التجارب الفنية كمسرح «بريشت» وغرست فيه حب الفن والميل للثقافة والابداع - كانت المدرسة - في ستينات وسبعينات القرن الماضي في جوهر العملية الفنية والابداع وكانت وراء خصوبة وثراء هذه المرحلة من خلال بعض المؤسسات كالشبيبة المدرسية والفرق المسرحية ونوادي السينما التي كان يؤمها شباب المدارس بالآلاف ولعل بدابات أزمة الابداع في رأي المنصف ذويب هي هذه القطيعة بين المدرسة والفن مما خلق تصحرا سيستغله أصحاب الأفكار المتحجرة ودعاة الغلو الديني والفكري وعوض أن تكون المدرسة مجالا للعلم والابداع ستصبح مجالا لاستقطاب زارعي الموت والخراب وسيعود المنصف ذويب الى المدارس من خلال برنامج هام تحت عنوان «1000 فلم وفلم» والذي يفتح التلميذ من جديد على تجربة الانتاج السينمائي والفني بصفة عامة..
المسألة الثانية تخص في رأيي الخلاف الهام الذي جمعه بلمين النهدي حول حقوق التأليف - وقد أثارت هذه المسألة والقضية التي رفعها المنصف ذويب ضد لمين النهدي الكثير من النقاش والحبر - ونعود الى جوهر هذه القضية والتي في رأيي لا تقف على المسألة المالية لتتجاوزها وتطرح قضية كبرى وهي حقوق المؤلف - فقد اعتاد الممثلون والمغنون شراءها من المؤلف والشاعر لتنتهي قصته مع نصه عند دفع شيء من المال - وقد رفض المنصف ذويب هذه الفكرة السائدة أن للمؤلف حق معنوي على النص ويبقى المبدع هو صاحب النص كما في جل البلدان الأخرى - وكانت المعركة القضائية بين الكاتب والممثل معركة رمزية وذات دلالات كبيرة - وقد قال القضاء التونسي كلمته في هذا المجال واعتبر في حكمه في هذه القضية أن المبدع هو صاحب النص - وكان هذا الحكم نقطة تحول تاريخية في الاعتراف بحقوق التأليف وحمايتها - ولكن وبالرغم من هذا الاعتراف الواضح والصريح فإن التطبيق يبقى صعبا لغياب قانون زجري يفرض اعطاء المؤلف حقه..
المسألة الثالثة التي بقيت من هذه الرحلة للمنصف ذويب في ثنايا الابداع هي الدور الهام الذي لعبه الفن في بناء ونحت معالم المشروع التونسي وتفرده وخصوصيته.. وقد انطلقت هذه التجربة الفنية والابداعية منذ الثلاثينات مع جماعة تحت السور وغيرهم من الفنانين والمفكرين والذين قاموا بثورة ثقافية هدفها الخروج من التقليد وهيمنة الفن المصري وبناء نمط فني له رونقه الخاص وجماليته.. وتواصل المشروع مع الخمسينات ودولة الاستقلال الى يومنا هذا.. وتتجسد هذه القطيعة على مستويين: المستوى الأول هو استعمال اللغة الدارجة في مجمل الأعمال الفنية.. وقد أعطى هذا التوجه أعمالا فنية رائدة فيها الكثير منالحساسية والجمالية لعل أبرزها مسرحية «غسالة النوادر» والتي نتذكرها كأحد أجمل النصوص..
المستوى الثاني في هذه القطيعة وتفرد التجربة التونسية يتمثل في طرح مضامين ومواضيع تدخل في خانة الممنوعات والمسكوت عنه في الثقافة العربية والمجال السياسي.. فطرحت الأعمال الفنية قضايا المرأة والجنس والدين متحررة في ذلك من كل القيود السياسية والاجتماعية.. وقد ساهم هذا المشروع الفني في دعم المشروع السياسي وتجربتنا التاريخية وخصوصيتها وتفردها وكذلك رونقها وجمالها..
أما الحصيلة الراجعة من هذا السفر في تجربة المنصف ذويب فتخص العلاقة الحميمة بين الفني والسياسي وقدرة الفن على حماية الأمل والمواطنة والقيم الحداثية.. وهنا يعود بنا المنصف الى الفترة الصعبة التي عرفتها بلادنا بعد الثورة مع تطور الغلاء الايديولوجي والفهم الجامد والمنغلق للاسلام وللحركات السلفية ليؤكد دور الفن والفنانين في المقاومة والدفاع على مدنية الدولة.. فكان الفن في بلادنا درعا ووسيلة لمقاومة التطرف والارهاب ومحاولات تغيير النمط المجتمعي.. فمن خلال الفن والمسارح الملأى وقاعات السينما دافع المجتمع عن ذاته وقاوم ثقافة الحزن والكآبة والموت بثقافة الفرح والأمل والابتسامة والسخرية..
هذه بعض المحطات والأفكار في رحلة التيه والضياع التي خاضها المنصف ذويب في ثنايا الابداع... رحلة ثرية وخصبة في كل مجالات الابداع من مسرح وسينما وتنشيط ثقافي.. رحلة ساهم من خلالها المنصف ذويب كما عديد المبدعين الآخرين في نحت تجربتنا التاريخية واعطائها خصوصيتها وتفردها.