وتبرز ملامح هذه الأزمة على عديد المستويات لعلّ أهمها تراجع ثقة المواطنين في الأحزاب التقليدية وعزوفها عن العمل السياسي كما نلاحظ أزمة الثقة في الأحزاب والسياسة في الانتخابات وارتفاع نسب الامتناع عن التصويت والتراجع الكبير في نسب المشاركة في الانتخابات إلى درجة أن البعض أصبح ينادي بجعل المشاركة في الانتخابات إجبارية كما هو الحال في بعض البلدان الديمقراطية مثل بلجيكيا.
ويمكن كذلك أن نشير إلى عديد المظاهر الأخرى لفقدان الثقة في الأحزاب التقليدية والسياسية ومن ضمنها صعود الحركات والقوى الجديدة في اغلب البلدان من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبالرغم من الاختلافات الإيديولوجية الكبرى والسياسية بين هذه القوى فان الجامع بينها هو رفضها للنظام السياسي القائم ومناداتها ببناء أنظمة سياسية جديدة تقطع مع الأنظمة القائمة .ولئن كانت هذه الأحزاب هامشية ولا تثير الاهتمام فإنها أصبحت في السنوات الأخيرة قوى سياسية فاعلة وتستقطب الكثير من الناخبين.
وفي رأيي فان لهذه الأزمات وفقدان الثقة في السياسة والأحزاب التقليدية أسبابا عديدة . وأريد الإشارة في هذا المقال إلى ثلاثة أسباب رئيسية .الأول والأساسي هو انحسار قدرة السياسي على الفعل الاجتماعي وتغيير الواقع وبالتالي تحقيق الوعود التي يقطعها على نفسه مع ناخبيه – إذن تراجعت قدرة السياسي على الفعل مما أدى إلى تراجع ثقة المواطن وإيمانه بالعمل السياسي. وعجز السياسي وتراجع قدرته على التغيير هي نتيجة لعديد العوامل لعلّ أهمها صعود العولمة وتداخلها في المجال الاقتصادي والاجتماعي والوطني مما جعل جزءا من الواقع بعيدا عن الفعل الوطني ويمكن أن نأخذ عديد الأمثلة عن الارتباط الوثيق بين العولمة والواقع الوطني مما يجعل تأثير السياسات الوطنية محدودا وقدرتها على تغيير الواقع بطريقة جذرية كما كان الشأن قبل صعود العولمة . فصعود الإرهاب مثلا والى جانب أسبابه الاقتصادية والاجتماعية المحلية فهو ظاهرة معولمة تتأثر بالخطاب العالمي لهذه المجموعات وكذلك بالسياسات الدولية للقوى العظمى في منطقتنا .
ويمكن لنا كذلك أن نأخذ عديد الأمثلة في المجال الاقتصادي فمن جملة الأسباب التي تفسر تراجع النمو في بلادنا والى جانب الأسباب الداخلية لا يمكن لنا أن نتغافل عن الأسباب الخارجية وبصفة عامة ارتباط اقتصادنا الوثيق بالسوق الأوروبية والتي تشهد تراجعا كبيرا في نموها مما اثر سلبا على اقتصادنا .
إذن فتحت العولمة حقبة تاريخية جديدة تختلف جذريا عن الحقبة الوطنية ومن ضمن نتائج هذه الفترة الجديدة هي الارتباط الوثيق بين الداخلي والخارجي وبالتالي فقدان السياسي والذي بقي مجال فعله مقتصرا على الوطني وفقد جزءا هاما من قدرته على الفعل وعلى تغيير الواقع وتحسينه مما نتج عنه فقدان ثقة المواطن وتراجعها.وفي هذا المجال لابد أن نشير إلى المحاولات التي تقوم بها البلدان الكبرى في إطار مجموعة العشرين أو الثمانية والمؤسسات الدولية في تنسيق السياسات على المستوى العالمي لدعم قدرتها على الفعل . إلاّ أن هذه المحاولات مازالت محدودة ولم توفق إلى مستوى يسمح لها بتغيير موازين القوى وإعطاء السياسي القدرة على الفعل التي فقدها مع العولمة.
المسالة الثانية التي تفسر فقدان الثقة في السياسي وتراجعها تهم في رأيي ما يسمى «بخيانة النخب» وهو مصطلح عام يشير إلى أزمة ثقة كبيرة بين النخب السياسية والمواطنين . وأسباب هذه الأزمة عديدة من ضمنها ارتباط بعض هذه النخب بأصحاب المال وخاصة المرتبطة بالفساد – كما تشير إلى تغيير مواقف النخب بارتباط بمصالحها المباشرة – كذلك نشير إلى تنامي المحسوبية والولاء في العمل السياسي كل هذه المظاهر الجديدة والتي عرفت نموا كبير في الساحة السياسية جعلت المواطنين يفقدون الثقة في النخب ويحشرونهم في خانة « كلهم سراق ووسخون» Tous pourris. ويشير العديد إلى أن هذه المظاهر أفقدت السياسة جانبها النبيل كونها عملا مواطنيا هدفه خدمة الناس وتغيير واقعهم المعاش.
المسألة الثالثة والتي تفسر تراجع الأحزاب التقليدية والسياسية بصفة خاصة تهم تكلّس الأحزاب التقليدية التي أصبحت بمثابة الأجهزة الإدارية والتي صارت علاقتها بالمواطنين قريبة من العلاقة البيروقراطية وبالتالي فقدت هذه الأحزاب العلاقة الحميمية التي تجمعها بالناس وهذا القرب الذي جعلها قادرة في السابق على التعيير عن مشاغلهم ووضعها في أولويات العمل السياسي والبرامج السياسية للأحزاب. إلاّ أن الوضع تغير اليوم لتصبح هذه الأحزاب عبارة عن أبراج عاجية بعيدة كل البعد عن مشاغل الناس وهمومهم مما خلق هوة كبيرة في هذه العلاقة.
كل هذه الأسباب تفسر أزمة الأحزاب التقليدية وتراجع ثقة المواطنين وابتعادهم بل ونفورهم الشديد من العمل السياسي.
وهذا الواقع المهزوز والمتأزم في علاقة المواطن بالسياسة جعل عديد الأطراف تسعى إلى الخروج منه وإعادة إحياء السياسة واستعادة دورها النبيل في كونها مجالا للمشاركة في الحياة العامة من اجل تغيير الواقع نحو الأفضل ونجد عديد المحاولات المواطنية لبناء هذه العلاقة الجديدة بين المواطن والفعل العام.
وأريد الإشارة هنا إلى تجربة هامة قام بها ثلاثة مرشحيـن للانتخابـات الرئاسيـة فـي فرنســـا وهـم Benoit Hamon و jean Luc Melenchon وEmmanuel Macron وهذه التجربة تخص طرق صياغة برامجهم الانتخابية وتعمل على الخروج من أزمة الثقة بين الأحزاب والمواطنين والأخذ بعين الاعتبار اهتماماتهم.
وعادة فان صياغة البرامج الانتخابية هي المهمة الأساسية الموكولة للأحزاب السياسية ولمناضليها .إلاّ أن هؤلاء المرشحين الثلاثة قرروا القطع مع هذا التقليد وبناء تجربة جديدة لعلاقة مباشرة مع بعض الاختلافات في بعض التطبيقات . والهدف الأساسي من هذه التجارب هي بناء مشاركة مواطنية كبيرة لصياغة برنامج المرشحين وهذه المشاركة هي ضمان أن هذه البرامج هي تعبير عن اهتمامات ومشاغل المواطنين وليست تخمينات أحزاب بعيدة كل البعد عن واقع المواطنين.
أمّا المنهجية التي اتبعها هؤلاء المرشحون فتتكون من ثلاث مراحل أساسية . المرحلة الأولى تتمثل في فتح استشارة مواطنية واسعة على الانترنت للناس كي يعبروا عن مشاغلهم وعن انتظاراتهم .وقد فتح مجال للمشاركة من خلال Une plate forme numérique مفتوحة مع تحديد محاور عامة لهذه المشاركة مثل التشغيل والثقافة والصحة والاقتصاد والتعليم.
المرحلة الثانية هي تجميع هذه المطالب ثم اختيار عن طريق القرعة مجموعة من المساهمين في الحوار والنقاش. ثم يلتقي هؤلاء المساهمون مع خبراء الحزب أو مستشاري المرشح للعمل معهم ومواصلة النقاش حول جملة الأفكار التي أتت بها الاستشارة ومدى واقعيتها وتكون هذه اللقاءات في شكل ورشات عمل عديدة تقوم بإعداد البرنامج في صيغته الشبه نهائية.
ثم تأتي المرحلة النهائية والختامية في هذا العمل وهي مرحلة النقاش بين المساهمين في إعداد هذه النسخة من مواطنين وخبراء ومناضلين لدراسة هذه المقترحات وبصفة خاصة الاستعداد للدفاع عن هذه الأفكار .
أثارت هذه التجارب اهتمام عديد المتابعين والملاحظين وقد أكد البعض على ثلاثة مصاعب أو مخاطر قد تهدد هذه التجارب الجديدة في إعادة إحياء السياسة .التحدي يهم الإمكانيات خاصة المالية منها لتنظيم هذه العملية ومشاركة مئات الآلاف من المواطنين في مختلف مراحل الاستشارات وهنا يشير احد الخبراء إلى أنّه وان كانت الديمقراطية التمثيلية (démocratie représentative) ممولة من الدولة فان الديمقراطية المساهمة (démocratie participative) لا تتمتع بنفس الإمكانيات مما يضع تحديا كبيرا في طرق تمويلها.
المسألة الثانية تهم مراقبة العملية والتأكد من أن مقترحات الاستشارة تم أخذها بجدية ولم يقع إهمالها. المسالة الثالثة تهم التوازن الضروري بين مساهمة خبراء الأحزاب وأصوات القائمين بالاستشارة المواطنية.
تمر السياسة والأحزاب التقليدية في كل البلدان الديمقراطية بأزمة عميقة جعلت المواطنين ينفرون ويهجرون العمل السياسي ليتركوه لمن يسمونهم « محترفي السياسة» ولابد لنا من العمل على إعادة الاعتبار للسياسة وللعمل السياسي بمعناه النبيل من حيث هو مشاركة مواطنية في إدارة الشأن العام من أجل تحسينه للأفضل. وهذا يتطلب تخليص السياسة من بعض الشوائب كالفساد والمحسوبية .كما يتطلب استنباط طرق مشاركة جديدة هدفها أخذ مشاغل واهتمامات وآمال المواطنين وأحلامهم بعين الاعتبار في صياغة البرامج السياسية .