وبانتصار دولنلد ترامب والذي اعتبره عديد الملاحظيت مرشح المهمشين ولم يكون قادرا على الوقوف في وجه مرشحة النظام أي هيلاري كلينتون اذ أن هذا المرشح والذي اعتبره العديد من المرشحين فولكلوريا كذّب كل هذه التوقعات وتمكن بعد حملة انتخابية حادة من الانتصار في هذه الانتخابات ليخلف في بداية السنة المقبلة باراك اوباما في البيت الأبيض.
أثار انتخاب ترامب الكثير من التعاليق والتحاليل من الخبراء والمحللين والمتابعين للشأن السياسي كان هدف كل هذه القراءات هو فهم الأسباب التي مكنت هذا المرشح الذي يملك برنامجا واضح المعالم والذي كان محل سخرية العديد من المعلقين مستبعدين ان ينتصر في هذه الانتخابات ليصبح رئيس أهم وأكبر دولة في العالم.
سأحاول في هذه المقالة ابداء بعض الملاحظات والأفكار لفهم ما يمكن أن نعتبره أهم معطى سياسي في العالم منذ أربعين سنة تقريبا أي منذ انتخاب رونالد ريغن في امريكا ومرڤريت ثاتشر في بريطانيا في بداية الثمانينات من القرن الماضي وأريد أن أؤكد في هذه المقالة ان انتخاب ترامب وانتصاره على كل السياسيين والمرشحين التقليديين هو مؤشر على نهاية فترة تاريخية وبداية ارهاصات فترة جديدة ويمكن ان أشير الى اننا نعيش اليوم ما يمكن ان نسميه «نهاية العولمة السعيدة» أو ما أطلق عليه بالفرنسية la globalisation heureuse وهي الفترة التي تميزت بقناعة فكرية وسياسية وايديولوجية ان العولمة التي انطلقت في بداية السبعينات والتي زاد نسقها في تسعينات القرن الماضي ستمكننا من تجاوز أزمة الدولة الوطنية وستساهم في فتح فترة نمو ورفاه جديدة كالتي عرفناها بعد الحرب العالمية الثانية والتي سماها دولة الرفاه أو L'etat- providence وقد عاش العالم على حلم «العولمة السعيدة» على مدى أربعة عقود كاملة ويشكل في رأيي انتخاب ترامب في الولايات المتحدة مؤشرا على نهاية هذه المرحلة ليفتح العالم على فترة مخاض لبروز مرحلة تاريخية جديدة - وهذا التحول التاريخي الهام لا يقتصر في رأيي على أمريكا بل يهم العالم وبدأت بوادره تبرز في عديد البلدان والقارات ومن ضمنها اوروبا وكذلك البلدان العربية.
ويمكن أن نشير إلى أربعة مظاهر عامة تختزل التحولات الكبرى التي بدأ العالم يعيشها والتي تشكل انتخاب ترامب أحد مؤشراتها.
• الظاهرة الأولى والتي تنبئ في رأيي بنهاية هذه المرحلة التاريخية هي ما نسميه بنهاية العولمة أو على الأقل أزمتها الخانقة. دعنا هنا نرجع ولاو قليلا الى التاريخ وبصفة خاصة الى نهاية الحرب العالمية الثانية فقد شهدت نهاية الحرب لا فقط هزيمة الأنظمة الفاشية في أوروبا بل كذلك عودة النظام الوستفالي Ordre westphalien في العلاقات الدولية والتي يرتكز على مبدأين هامين وهما دور الدولة الوطنية كعمود فقري للعالم وللعلاقات بين الدول ومبدأ احترام السيادة داخل الحدود الوطنية وعدم التدخل بين الدول. وقد عرف هذا النظام الذي ساد العلاقات الدولية منذ نهاية حرب الثلاثين سنة وعقد صلح واسفالي في 24 أكتوبر 1648 ساد - هذا النظام وأصبح أساس العلاقات الدولية على مدى قرنين ونصف - الا أن هذا النظام شهد هزات وأزمات كبيرة في بداية القرن العشرين مع الحرب العالمية الأولى وتفكك الامبراطوريات الكبرى في أوروبا وستتواصل أزمات هذا النظام مع الازمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 وصعود الأنظمة الفاشية واجتياحها لعديد البلدان الأخرى واخضاعها لسيطرتها وستكون الحرب العالمية الثانية احدى أبرز محاولات تفكيك هذا النظام العالمي ومبادئ سياسة الدولة الوطنية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
الا أن نهاية الحرب العالمية الثانية ستكون نقطة عودة لهذا النظام واعادة تشكيل للعلاقات الدولية على أساس مبادئ واستفالن وسيشهد العالم فترة جديدة من الاستقرار ستكون الدولة الوطنية واحترام سيادة الدول داخل حدودها الوطنية هي مبادئها - وبالرغم من الحرب الباردة وظهور القطبين: الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السفياتي من جهة ثانية فإن نظام الدولة الوطنية والاقتصاد الوطني ستكون أسس هذا النظام العالمي الموروث من الحرب العالمية الثانية.
وستساهم الطفرة الاقتصادية وما يسميه الاقتصاديون بالثلاثين سنة الذهبية les trentes glorieuses في تدعيم هذا النظام وستعرف أغلب بلدان العالم فترة نمو اقتصادي هام سيساهم في تحقيق دولة الرفاه الاجتماعي والوصول الى مستويات معيشية والى عدالة اجتماعية لم يعرفها العالم من قبل.
الا أن هذه الفترة الذهبية ستعرف حدودها في بداية سبعينات القرن الماضي مع بداية أزمة اقتصادية عالمية سيعرف معها العالم نهاية دولة الرفاه فستعرف معدلات البطالة نمو كبيرا كما سيعرف الاقتصاد العالمي حالة تذبذب وعدم استقرار كبيرين.
وفي هذا الاطار ستبرز العولمة كحل لأزمة الدولة الوطنية وستدفع أغلب الدول والمؤسسات العالمية في اتجاه فتح الحدود الوطنية ودفع التبادل التجاري الحر ورفع القيود على حركة رأس المال لدفع حركية اقتصادية جديدة تمكن الاقتصاد العالمي من الخروج من أزمته وبناء فترة رفاه جديدة تشبه الفترة الذهبية التي عرفها العالم اثر الحرب العالمية الثانية. وستشهد العولمة التجارية قفزة الى الأمام في تسعينات القرن الماضي قفزة الى الأمام مع فتح الأسواق المالية العالمية والبورصات لتجعل «العولمة السعيدة» من العالم «قرية صغيرة» يطيب فيها العيش وتنتفي فيها كل تناقضات ومصالح الدولة الوطنية.
الا أن هذه اليوتوبيا utopie أو المدينة الفاضلة التي سعى رأس المال العالمي لسنوات 2008 و2009 وستكون هذه الأزمات الاقتصادية نقطة انطلاق لوضعية عالمية تتميز بعدم الاستقرار وغياب وضوح الرؤية.
ونتج عن هذه الأزمات تراجع كبير في الثقة في «العولمة السعيدة» وظهور عديد الحركات التي تنادي بالعودة الى الدولة الوطنية ورفض العولمة بل واعتبارها سبب الانخرام وعدم الاستقرار وتدهور الأوضاع وقد ساهمت هذه الحركات في انتصار ترامب في أمريكا وفق
نمو حركات اليمين الفاشي في عديد البلدان.
الظاهرة الثانية التي تميز هذه الفترة التاريخية وهذه القطيعة مع الفترات السابقة هي اجتماعية وأوريد أن أشير في هذا المجال الى مسألتين هامتين:
- الأولى مرتبطة بالنمو الكبير في الفوارق الاجتماعية الذي عرفه العالم في السنوات الأخيرة وقد أشارت عديد الدراسات الى أن هذه المسألة هي نتيجة من ناحية الى الثورة الجبائية التي قامت بها عديد الحكومات الليبيرالية والتي خفظت من الاداءات والجباية على المداخيل العليا كما عرفت هذه الفترة نموا كبيرا لمداخيل بعض القطاعات الجديدة بصفة خاصة في القطاع المالي.
الى جانب نمو الفوارق الاجتماعية قد عرفت عديد البلدان أزمات اجتماعية حادة وظهور تجمعات اجتماعية متناقضة مما أدى الى ضعف الرابط الاجتماعي والشعور بالانتماء الى مجتمع واحد.
ففي عديد البلدان المتقدمة شهدت المناطق والتجمعات العمالية أزمات حادة بعد تصدير الصناعات ذات الكثافة العمالية الكبيرة الى البلدان النامية وفي نفس الوقت ظهرت تجمعات أخرى مرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة ونشهد نفس هذه المظاهر في بلداننا في الفوارق التي تعرفها التجمعات المرتبطة بالقطاعات المنظمة وقطاعات اجتماعية أخرى مهمشة وتعيش في القطاعات الغير منظمة ومن ضمنها التهريب.
إذن خلقت العولمة في أغلب المجتمعات تجمعات موازية بين القطاعات المرتبطة بحركة الاقتصاد العالمي وأخرى مهمشة وتعيش أزمات اجتماعية وحالة من الحرمان والخوف وانسداد الأفق وقد ساهمت هذه التطورات الموازية وحتى المتناقضة في بعض الأحيان في فك
الرابط الاجتماعي وفتحت أبوابا كبيرة للرفض وحتى العنف. وستنمي وتدعم هذه الأزمات والبؤس الاجتماعي هذه الحركات واليمين الفاشي والداعي الى عودة الدولة الوطنية للخروج من أزمة العولمة.
• الظاهرة الثانية التي تميز هذه الفترة الجديدة وتشكل احدى ارهاصاتها تخص ظهور ونمو الحركات الشعبوية في عديد بلدان العالم ومن ضمنها بلادنا والشعبوية تهم كل الحركات السياسية التي تضع من خيانة النخب للشعب جوهر دعايتها السياسية وتؤكد هذه الحركات
السياسية أن الأحزاب والنخب التقليدية فقدت كل علاقاتها بالشعب وأصبحت تعيش بعيدة عنه ولا تهتم بمخاوفه وآلامه وقد عرفت عديد البلدان ظهور هذه الحركات ونموها لتصبح مع الأزمة الاجتماعية وانسداد الأفق الاجتماعي حركات قوية وفاعلة. وقد ركزت نقدها علي النخب المعولمة والتي انفرط حبل الوصال بينها وبين شعوبها لتطرح نفسها كبديل للنخب والأحزاب التقليدية.
• الظاهرة الثالثة تخص الحركات السياسية وبصفة خاصة تراجع التعبيرات والأحزاب المنفتحة على العالم وعلى الآخر ونمو وتقدم التعبيرات المحافظة أو حتى الرجعية والتي ترى وتبحث في العودة للماضي كحل للأزمات الراهنة.
نعيش اليوم مرحلة مفصلية بعد تراجع أزمة العولمة وما انتخاب ترامب ونمو الحركات والشخصيات الشعبوية في عديد البلدان الأخرى الا مؤشرا عن المخاض والارهاصات الكبرى التي نعيشها اليوم.
وهذه التحولات وبالرغم من صعوباتها ودقتها تتطلب منا اليوم عملا فكريا وسياسيا دؤوبا لصياغة رؤى وبرامج جديدة تمكننا من فتح آفاق لتجارب انسانية وسياسية جديدة أساس الديمقراطية والحرية والتعايش لبناء مصير مشترك وهذه المهام ملحة وضرورية لغلق الباب أمام كل المغامرين الذين يتخذون من يأس وضيق أفق الشعوب لدفعهم في مغامرات تنفي إنسانيتهم وتعود علينا بالوبال.