فبعد أن إعتقد المتابعون في الداخل والخارج أن التجربة التونسية ستكون رائدة بعد هبّة «الياسمين» في 2011. كما حصل بالضبط عند نجاح تونس في التوقي من كوفيد 19 عند ظهورها ، ثم السقوط في الأخطاء الّتي أدّت بالبلاد إلى المراتب الأولى في عدد الإصابات والأموات.
فالأزمة الّتي تبعت التحوير الوزاري الّذي أجراه المشيشي بشيء من التعنت و المكابرة، بعد أن تنكّر لوعوده إبان إختياره من رئيس الجمهورية كشخصية أقدر لتولي رئاسة الحكومة استفحلت الأزمة شيئا فشيئا ، إلى أن تحولت إلى مأزق سياسي أصبح يعطّل السير العادي لدواليب الدولة ،و ينزل بكل ثقله على الوضع العام بالبلاد.
المشيشي لم ينجح في الحفاظ على التقبل الإيجابي لتعيينه و أدى به ضعف تجربته السياسية و إستسهاله للمهمة الّتي كلّف بها و سوء تقديره للتوازنات السياسية و إنسياقه وراء الإبتزاز السياسي من الحزبين الأغلبييْن في البرلمان ، إلى جرّ البلاد إلى أزمة لا أحد يمكنه تقدير مخرجاتها .
سوء التقدير هذا، قاد المشيشي إلى خوض معركة بالنيابة عن حزامه الداعم له المتكون أساسا من حزبي النهضة وقلب تونس، ضد رئيس الجمهورية الّذي منحه ثقته و عوّل عليه كي تسلك تونس المسار الصحيح في إعادة التوازن إلى الدولة والسير نحو تجاوز الأزمة.
لا شك أن تدخل رئاسة الجمهورية و دوائرها المقربة في تسمية بعض الوزراء لم تكن موفّقة، بل أنها كانت كارثية في البعض منها ،و لكن لو كانت لرئيس الحكومة التجربة الكافية والحنكة في التسيير والتصرف ،و في إختيار مستشاريه و معاضديه من الكقاءات المهنية و السياسية لتمكّن من ترتيب كل الأمور ،و إجراء التعديلات اللّازمة بتروّ ، في كنف التشاور الذي تقتضيه مهامه ، دون معاداة هرم السلطة التنفيذية ورمز سيادتها، أو بقية الأطراف الّتي بقتضي الأمر التعامل معها.
لقد برهنت تجربة السنوات العشر الماضية على إجادة حركة النهضة الحزب الأغلبي في مجلس نواب الشعب ، المناورة و حسن إستغلال تمركزها في مختلف مقاصل الدولة والذي كسبته في فترة حكم الترويكا ،و كشفت بما لا يدع مجالا للشك ، أنها لا تتأخر عن التضحية بأي حليف من أجل مصلحتها للبقاء في السلطة و ممارستها و لو بإستعمال وكلاء عنها . كما كشفت التجربة أيضا عن أن النهضة لا تعوّل على آليات الدولة الحديثة وأجهزتها، ولا تؤمن بالمؤسسات ، وإنما تعوّل على الولاءات و على إمكانياتها المالية في تطويع من تريد ، في تناغم تام مع قناعات زعيمها في الإمامة في تسيير شؤون الرعية .
لذلك لا نستغرب من الدفع إلى النزول للشارع من الماسكين بالسلطة وفي مقدّمتهم حركة النهضة، للترويع والتخويف وللتدليل على كونها لا تتأخر عن إتيان أي فعل، من أجل الحفاظ على مصالحها، و ذلك في رد على موجة الإستهجان الشعبي لها ،و في سعي لمواجهة رئاسة الجمهورية بنفس السلاح ، في محاولة لسحب البساط منها وفي مزيد تعفين الأجواء ، لكسب الوقت و حبك خيوط مناوراتها ، لتأمين مواقعها في السياسة والدولة.
في خضم البحث عن الحلول القانونية -المحدودة مسبقا- بحكم الصياغات الفضفاضة والمفخّخة الّتي سبق وضعها في غفلة وبهتة من جميع الفاعلين السياسيين الّذين كانوا منتشين بروائح «ثورة الياسمين»، تتقهقر أوضاع البلاد و تسير نحو الخلف، لتعود إلى نفس المربعات الّتي كانت فيها سنتي 2012 و 2013، ولتشهد البلاد نفس الإحتقان، والتشاؤم والقلق في مختلف الأوساط ، كما بيّنت ذلك استطلاعات الرأي الأخيرة.
إن مرد هذا التقهقر، ليس مواقف المشيشي و حزامه الدّاعم له فقط، بل ساهمت فيه رئاسة الجمهورية، بغياب ردود فعلها وبقائها في مواقع تبدو دفاعية، دون المبادرة أو تقبل مبادرات أخرى أو المعالجة الجادة اللإشكاليات المطروحة باقتراح الحلول الكفيلة بإخراج البلاد ممّا هي فيه، إلى درجة حصول قناعة بأن الرئاسة لا تفعل شيئا لتجنب تعفّن الأوضاع، بل تساهم في الدفع إليه، دون تبيّن الغاية الحقيقية من ذلك.
فالإشكال كما سبق أن أشرنا إلى ذلك ، ليس في قبول رئيس الجمهورية دعوة الوزراء الجدد لأداء اليمين .... «لأن ذلك قد كان بالإمكان أن يقع فضّه برد المقترح إلى مصدره، مع ما يثبت جدية وجود شبهة فساد بخصوص بعض الوزراء»، أو تنحي المعنيين تغليبا لمصلحة البلاد ، أو تنبيه الرئاسة منذ البداية إلى مخالفة الإجراءات الواجب إتباعها . و لكن الإشكال و الخطر في أن يتواصل التعامل مع كل الإشكاليات الّتي يمكن أن تطرح مستقبلا ، بنفس الطريقة ،دون الوقوف وقفة تأمّل جدية لتصحيح المسار الّذي تسير فيه تونس . هذا التصحيح يمليه اتفاق كل مكونات المجتمع السياسي و المدني تقريبا على ضرورة التعديل و الإصلاح ،مع وقف التردي و تجنّب مزيد تقويض مؤسسات الدولة أو الدفع نحو التصادم.
إن الحل في تغيير التعامل السياسي بين مختلف الأجهزة و تطبيق القانون لإعلاء كلمة الدولة ضمن منظومة قيم الديمقراطة والجمهورية، والتفاعل الجاد عند التحاور، وإعادة التفكير في كيفية اللّجوء إلى الآليات التي يتضمنها الدستور ولو عبر الإستفتاء بعد مراجعة القانون الإنتخابي بما يكفل عدم انخرام التوازن الّذي تقتضيه إجراءات تجاوز الأزمة .
و لكن يبدو أن كل طرف يتشبث بنفس الموقف، مع الهروب إلى الأمام مما يشكل في الحقيقة تقهقرا إلى الوراء ،في ما يضاهي ما حصل سنتي 2012 و 2013 و رجوعا إلى الخلف ، لإعادة ما عاشته تونس منذ ثماني سنوات ، دون التوقع مرّة أخرى بما سيفر عن ذلك ، مع التمني بألاّ يكون كارثيا كتبعات وباء «كوفيد- 19».
أزمة التحوير الوزاري و توابعها: الهروب إلـى الـــوراء ...
- بقلم المنجي الغريبي
- 11:36 15/02/2021
- 1503 عدد المشاهدات
رغم مرور عام ونصف على الانتخابات التشريعية والرئاسية في تونس ، مازالت البلاد تعيش حالة من عدم الإستقرار السياسي،