أم أنّها ممارسات فعليّة تُعاين في الحياة اليومية ؟ هل هي شعارات مكتوبة على اللافتات لا يملّ المحتجون من رفعها بين الحين والآخر أم هي مبادئ تلتزم الدولة باحترامها وفق فصول مختلفة تضمّنها الدستور؟ ألسنا اليوم بحاجة ماسّة إلى تجديد لغة التواصل بين المشرفين على إدارة الشأن السياسي والجمهور المتقبّل بعد أن صارت الكلمات فاقدة للمعنى؟
نسوق هذه الأسئلة بعد أن استغرب عموم التونسيين تعمّد الحكومة كتم تفاصيل الاتفاق الحاصل بينها وبين القضاة واحتدام الجدل وارتفاع أصوات تندّد بطريقة التعامل مع المنتمين إلى هذا القطاع وتطالب الحكومة باحترام حقّ التونسيين في معرفة محتوى الاتفاق وعدم التمييز بين الأطراف المحتجّة.ولئن كنّا نشاطر مواقف الفئة المطالبة باعتماد الشفافية مبدأ يحكم بنية العلاقات بين الحكومة والمواطنين/ات ويرسّخ المشاركة والمواطنية فإنّنا نرى أنّ للمسألة أبعادا أخرى تتجاوز مسألة التعتيم ورفض عرض التفاصيل إلى التأمّل في فعل تمزيق الحجب عن فئة القضاة الذين ظلّوا طيلة عقود، غير مرئيين بعد أن اضفيت عليهم «القداسة» بحكم تموقعهم كسلطة تشريعية والمنزلة الاجتماعية التي يتمتعون بها والوجاهة التي يستمدونها من خطة قال عنها المؤرخ المقري: «إنّها من أعظم الخطط عند الخاصة والعامة؛ لتعلقها بأمور السلطان، وكون السلطان لو توجه عليه حكم، حضر بين يدي القاضي».
فبالرجوع إلى ردود الفعل نتبيّن إقدام عدد من القضاة على مناقشة «الإضراب الطويل النفس» على شبكات التواصل الاجتماعي مثلهم في ذلك مثل بقية الفايسبوكيين بل اطلعنا على خصومات يتخللها العنف اللفظي من تراشق بالتهم وسبّ وتفتيش في الماضي حيث تواطأ عدد من القضاة مع السلطة وكانوا ضدّ الشعب ففقدوا استقلاليتهم واحترام زملائهم وشكّك الناس في نزاهتهم.وفي السياق نفسه عثرنا على ردود بعض القضاة على تصريحات أدلى بها عدد من السياسيين والفاعليين الحقوقيين وغيرهم ممن ندّدوا بتعطيل المرفق العمومي وتعطيل مصالح الناس.
وما يهمّنا في هذا الجدل إزاحة الحجاب عن صورة القاضي التي ترسّخت في المتخيّل الجمعي والتي حالت دون إخضاع هذه الفئة للمراقبة والمساءلة والمحاسبة فمن كان يتجرّأ على نقد سلوك القضاة أو السخرية من بعض تصريحاتهم؟ أمّا الاكتشاف الثاني فيكمن في تبيّن المستوى الثقافي لعدد من القضاة الذين تصدّروا المشهد الإعلامي فقد أبانت تدخلاتهم عن ضعف الاستدلال، واختلال في منطق الحجاج وعدم القدرة على الإقناع فضلا عن تمسّك أغلبهم بتمثلات تكرّس التمييز والاستعلاء وكأنّ العالم لم يتغيّر من حولهم ...وكأنّ المعارف لم تتطوّر، وهو أمر يثير إشكالا على مستوى فهم النصوص وتأويلها إذ أنّى لمن كانت ثقافته تقليديّة أن يفهم الانتقادات ويمارس النقد الذاتي والمراجعات.
ولا يمكن التغاضي عن اكتشاف ثالث تمثل في اهتمام بعضهم بذواتهم وعدم اكتراثهم باتساع الفجوة بينهم وبين سائر المواطنين فمن يغالي في مقدار الجراية (10 ملايين بالشهر) لا نخال أنّه/ها يعي جيّدا أنّ الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد قد ضاعفت أعداد من لا يملكون قوت يومهم وقد جعلت «البرباشة» والمتسولين يبحثون في سلات القمامة عن بقايا طعام يسدّ رمقهم.
لقد أفضى النقاش الذي دار بين أبناء القطاع إلى الفرز بين القطاعات وهويات المحتجّين، والتمييز بين «الشرفاء» وغيرهم ، كما أنّه أبرز اختلاف وجهات النظر فاستحال الحديث عن كتلة منسجمة من القضاة يتبنون نفس المواقف والمطالب. ونقدّر أنّ هذا الجدل قد عرّى المستور، وأزال الحُجب التي ساهمت في جعل القضاة بعيدا عن دائرة الأضواء وبؤرة التحديق. ولعلّ أفضل ما ترتب عن خروج النقاشات إلى العلن أنّها كشفت عن سؤال جوهريّ: ما معنى أن تكون إنسانا ومواطنا قادرا على فهم خصوصية المسار وتحديد دورك في البناء.
إنّ المساواة ليست فقط حقّا ... إنّها ممارسة وفعل في الواقع، وهي موقف يعبر عن رفض التمييز والاستعلاء والاستقواء. أما السلطة فإنها لا تعني القدرة على الفعل بل ممارسة الفعل المتناسق وتبني المواقف المنسجمة.
أزمة مزّقــــت الحُجـــــب
- بقلم امال قرامي
- 08:49 30/12/2020
- 1564 عدد المشاهدات
هل أن المساواة و العدالة والشفافية والحوكمة الرشيدة .. قيم ومصطلحات نوشّي بها الخطاب السياسي أثناء الحملات الانتخابية