تونس تتخبط أمام أزمة مالية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة: توحيد المعطيات قبل الاتفاق على السياسات

من نافلة القول التأكيد على حدّة وخطورة الأزمة متعددة الأبعاد ماليا واقتصاديا واجتماعيا والتي تعيشها بلادنا، أزمة كشفت وعمّقت جائحة الكورونا تفاقمها المستمر

من سنة إلى أخرى إلى أن أفقنا اليوم على الصعوبة البالغة لتمويل عجز ميزانية هذه السنة الجارية في انتظار مآلات السنوات القادمة ..

أمام هذه الأزمة وأمام انسداد الأفق العملي تتعالى الأصوات داخل مختلف مستويات السلطة وأجنحتها حول ضرورة انتهاج طرق «غير تقليدية» وحلول «مستجدة» قصد الخروج منها،ولكن لو نتجاوز هذا الخطاب الفضفاض لا نجد ولو بداية فكرة واحدة ملموسة تقليدية كانت أم غير تقليدية بإمكانها الصمود أمام أول امتحان عملي لها ..
قلنا في مناسبات عديدة أن أزمة البلاد ناجمة عن عدم توحيد وتوحد نخبها حول تشخيص المشاكل الأساسية ،لكن يتبيّن كل يوم أن الأزمة في الحقيقة أعمق من هذا بكثير إذ تتأسس كلها حول عدم اتفاقنا على المعطيات الأساسية لكل ما يتعلق باقتصاد البلاد وآلتها الإنتاجية والإمكانيات الفعلية المتاحة أمامها.

تشبه تونس الآن تلك العائلة التي يتناحر أفرادها حول تركة مفترضة ولكنهم لا يملكون المعطيات الكافية حول حجم هذه الثروة وطبيعتها وحول الديون الحافة بها كما أنهم غير متفقين على طريقة قسمتها إذ الأهم بالنسبة لكل فرد منها أن يأخذ نصيب الأسد المفترض وأن يختص به لنفسه ويترك البقية في معاركها التي لا تنتهي ..
في تونس لدينا وهم لم نتمكن من التخلص منه وهو أننا دولة ثرية بمواردها الطبيعية والبشرية ولدينا أموال طائلة عند المهربين والمتهربين والذين نهبوا البلاد من أزلام الماضي أو الحاضر وأننا لو استعدنا كل هذه الخيرات وهذه الأموال لكانت بلادنا من أثرى بلاد الدنيا ..

لا ولن نتخلص من هذا الوهم مادامت السلطة التنفيذية والنخب السياسية تردّدان هذا الكلام صباحا مساء ويوم الأحد، وما دامت الحكومة لا تشعر بأية مشكلة عندما تقدم مشروع ميزانية تكميلية تريد من ورائها في نسخته الأولى ،حشد 10 مليار دينار إضافية من السوق الداخلية لغلق موازنة هذه السنة، وحتى عندما تعدل هذه الميزانية التعديلية وتنزل بها إلى 8 مليار دينار وتقول أن هذا المبلغ لا يمثل مشكلة خاصة وان البنوك قد راكمت من الأرباح بما يسمح لها بتمويل هذا العجز دون مشاكل كبيرة ،إنما تسهم بدورها في تأكيد هذا الوهم والتركيز فقط على سوء توزيع الثروة بدلا من وضع الإصبع على مكمن الداء الحقيقي وهو عجزنا عن خلق الثروة وتطوير آلتنا الإنتاجية والتقدم بها في سلم القيم .
اليوم أصبحت «الحلول غير التقليدية» البديل السائد عن «المنوال التنموي الجديد» أي شعار جميل ينطوي على أفكار صائبة ولكنه يوظف فقط لعدم الإجابة على الأسئلة الملحة بصفة واضحة والاختفاء وراء هذه الشعارات الجميلة حتى لا نضطر للدخول في التفاصيل وفي الحلول الواقعية غير البراقة بالمرّة ..
لا يناقش أحد في ضرورة الإنصات إلى كل القوى الحية في البلاد وإلى مشاكل المواطنين في كل الجهات ،ولكن من مسؤولية السلطة وكذلك الطبقة السياسية برمتها أن تضع التشخيص الدقيق والنزيه وان تؤسس حلولها وفقه وفي دائرة الفعل الممكن عاجلا وأجلا .

الواضح والبديهي أن سياسة الانفاق العمومي المتبعة منذ الثورة إلى حدّ الآن لم تنتج نموا ولا تنمية بل فاقمت المديونية إلى حدّ التهديد الكلي لسيادة قرارنا الوطني، والغريب أن هنالك إجماعا ظاهرا حول هذا التوصيف ولكن كل السياسات العمومية التي تقترحها الحكومات المتعاقبة في قوانين المالية والميزانية تفاقم هذه الاختلالات ثم نجد أن القوى السياسية صادقت على هذه القوانين في الماضي القريب تأتي اليوم لتستنكر النتائج الطبيعية لهذه السياسات كما أن جلّ الأحزاب الممثلة في البرلمان - إن لم نقل كلها - والتي عارضت قوانين المالية السابقة قد طالبت الحكومات المتعاقبة بمزيد الانفاق العمومي ظنا منها أنها تخدم بذلك العدالة الاجتماعية في البلاد..

لا يناقش أحد في الأهمية البالغة لدور الدولة في الاقتصاد وفي دفع عجلة النمو وفي التخطيط للمستقبل القريب والبعيد، ولكن عندما تشجع الدولة على الكسل وعلى المال السهل،للأجير ولربّ العمل على حد سواء، فهي بذلك تضرب قيمة العمل وتثبّط عزائم المجتهدين وفي النهاية تعمق الأزمة وتجعل شروط تجاوزها عسيرة للغاية ..

صحيح أننا نحتاج لحلول غير تقليدية، لكنها ليست تلك التي تقدم إلينا الآن من إيجاد سوق لشركات الغراسة والبيئة مثلا ..الحلول غير التقليدية الوحيدة هي في تشريك القطاع الخاص في أشغال البنية التحتية في إطار قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وهي كذلك في التشجيع على المبادرة الخاصة في كل مناطق الجمهورية وفي خلق شروط التشبيك بين التمويل والقطاعات الواعدة وكل صاحب فكرة وان تتجه السياسات العمومية الى خلق طبقة جديدة من المستثمرين في المناطق الداخلية وان تركز فيها أقطابا تربوية وعليمة واقتصادية للتفوق .

الطرق غير التقليدية في التفكير هي أن تجعل للمناطق المهمشة وخاصة للفئات المهمشة فرصة للنمو ولخلق الثروة لا عبئا إضافيا للدولة الراعية ..فما دام حلم مئات الآلاف من شبابنا هذا وظيفة في القطاع العام أو الهجرة اللانظامية نكون قد خسرنا كل شيء ..الطريقة غير التقليدية هي أن نجعل من حلم التميز والثراء والنجاح المدرسي أو العلمي أو الاقتصادي أو الاجتماعي آفقا متاحا للجميع ..

وكل ما ذكرنا لا يعني إنفاقا عموميا إضافيا، بل ضخا للذكاء في آلية تفكير معطلة ومغامرة جماعية بإمكانها أن تتحول بسرعة إلى حلم وطني جامع يؤسس لرفاهية مشتركة ومتاحة لغالبية التونسيين ..
في الانتظار نتمنى بصيصا من العقل والعقلانية في هذه العاصفة الهوجاء ومن هذا التسابق المسعور نحو حائط سئم من أوهامنا وقلة عزمنا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115