تقلهم من تونس الكبرى باتجاه عين دراهم ..رحلة ترفيهية تحولت إلى تراجيديا لعائلات كثيرة وللوطن بأسره..
لا توجد بلاد واحدة مؤمنة من حوادث الطريق المريعة، ولكن ما حدث بمنطقة عمدون يتجاوز الحالة المخصوصة،على فظاعتها، ليكشف عن سلسلة من الأزمات الهيكلية التي تعاني منها بلادنا..
نحن بداية أمام وضعية صارخة للسلامة المرورية وعدد القتلى المهول سنويا : 1205 في السنة الفارطة، ورغم التراجع النسبي لعدد ضحايا الطريق (1623 في 2012 و1517 في 2015) إلا أنه يبقى مرتفعا.
على عكس فكرة رائجة تونس لا تحتل صدارة الترتيب العالمي في عدد قتلى الطريق لا بالنسبة لعدد السكان أو مقارنة بعدد العربات.
ترتيبنا سيء : 130 على 180 حسب منظمة الصحة العمومية ولكن الإشكال أننا رغم الجهود المبذولة لم نتمكن من الحد بصفة واضحة من هذه الكارثة اليومية.
نحن نعيش هذه الآفة منذ حوالي ثلاثين عاما وكان «بطل العالم» آنذاك فرنسا تكاد تصل إلى 12.000 قتيلا سنويا في أواسط ثمانينات القرن الماضي وكان عدد القتلى آنذاك في نفس الحدود التي نشاهدها اليوم ..في حين أن فرنسا بفضل سياسة حازمة تمكنت من قسمة هذا العدد على أربعة.
أسباب الحوادث عديدة ولكن تبقى السياقة المتهورة أهمها وذلك في كل بقاع العالم وأيا كانت نسبة الازدهار الاقتصادي لبلد ما..
والتهور يعني هنا السياقة الخطرة التي لا تراعي وضعية وسيلة النقل ولا وضعية الطريق ولا وضعية المناخ ولا تستبق المخاطر المختلفة بصفة جيدة ولا أدل على ذلك من النسب المهولة لقتلى الطرقات في بلدان وضعية الطرقات فيها وأسطول السيارات جيدة .. ومقاومة هذا التهور تأتي بداية وأساسا بالردع الجدي المعمم على كل أشكال التهور من سرعة فائقة وعدم احترام إشارات المرور والسياقة في حالة سكر أو إرهاق والردع الفعال يتطلب الاستثمار في المراقبة الالكترونية وعدم التساهل مع المخالفين ومقاومة شرسة للرشوة في الطريق اذ تسهم بدورها في تفشي السلوكيات المتهورة.
ولكن في تونس نحن ايضا امام عدم تلاؤم جزء من الطرقات مع القواعد الدنيا للسلامة المرورية وخاصة في المناطق الغربية للبلاد حيث الجبال والمرتفعات وحيث طرقات عديدة خطرة للغاية إذ تتجاوز فيها درجة الانحدار المعايير الهندسية المعمول بها دوليا وهي 10 درجات فنجد في مكان الحادث حوالي الضعف يضاف إليها زاوية حادة للدوران بما يفاقم الخطر على كل عربة تمر من هذه المناطق.
صحيح أن منطقة الشمال الغربي، على سبيل الذكر ،تقاسي في ما تقاسي من هذه الطرق والمسالك الخطرة وأن دولة الاستقلال لم تستثمر بما فيه الكفاية في البنية التحتية في هذه الولايات الأربعة باجة وجندوبة والكاف وسليانة ويمكن أن نضيف إليها كذلك ولايات الوسط الغربي القيروان وسيدي بوزيد والقصرين،ولكن تضاريس المناطق المرتفعة تفرض على كل دول العالم الاضطرار إلى زوايا انحدار تتجاوز أحيانا %20 ولكن مع فرض تخفيض كبير على مستوى سرعة العربات ومنع أصناف معينة من العربات من ولوج هذه المقاطع..
لا يمكن لبلاد كتونس أن تبني قنطرة في كل منطقة سوداء، فهذه كلفة لن نكون قادرين عليها على الأقل في المدى المتوسط ولكننا قادرون على الحد من خطورتها إما بتوسيعها أو تسييجها أو وضع مخفضات للسرعة فيها أو كل هذه الوسائل مجتمعة.
وهذا يفترض كذلك أن ترفع الدولة بصفة هامة في ميزانية التنمية والعمل على ألا تقل عن %20 من مجموع ميزانية الدولة أي بالنسبة للسنة القادمة 9.5 مليار دينار بدلا من 7 مليار دينار، وهذا يفترض بدوره القدرة على الحد من نفقات التصرف والتقليص أيضا من خدمة الدين، أي التحكم الفعلي في نفقات الدولة وتحديد مختلف لمجالات تدخلها ..
إن وضعية طرقاتنا في هذه المناطق لا تعني ضرورة ان هنالك فسادا في الصفقات التي تمت بمقتضاها ولكن لجأت البلاد خلال العقود الماضية إلى الحلول الأزهد ثمنا حتى يتسنى لها التدخل على أكثر من واجهة ،وهذا لا نلاحظه فقط في شبكات الطرقات ولكن كذلك في كل بنيتنا التحتية لإنتاج وتصريف المياه ومحطات تطهير ووحدات لإنتاج الكهرباء..
ما كان مبررا ومعقولا في ستينات وسبعينات القرن الماضي لم يعد مقبولا اليوم لا اقتصاديا ولا اجتماعيا ولا إنسانيا..
ونقول ونكرر انه لا يجب اعتبار مناطق النمو الأضعف عبئا على المجموعة الوطنية بل فرصا جديدة لنمو متوازن للبلاد.. فما لم ننظر إلى كل مناطق التخوم كفرصة للتميز ولخلق القيمة المضافة ولصناعة الذكاء ولتطوير قوي لقدرات البلاد.. ما لم ننظر لها كهذا بسياسات عمومية مجددة وبإدارة مبادرة لا معيقة لكل اجتهاد وابتكار لن نخرج مطلقا من هذه الحلقة المفرغة ولن نحقق التنمية حتى لو حسنا نسبيا في نسب نمونا .
كما أن هذه الكارثة قد كشفت أيضا عن قصر نظر نخبنا ولا سيما منها الحاكمة إذ سارعت إلى التصرف العاطفي واتهام الإدارة والإشارة بالبنان إلى «الفساد» وكأن هذه الكلمة السحرية كافية لتفسير كل شيء من ضعف الموارد والإمكانيات وتفاقم المطلبيات..
البلاد التي لا تحارب الفساد لا يمكنها ان تنمو ولكن التصور الدونكيشوتي لمحاربة الفساد يدل بدوره على عجز عن ابتكار الحلول وعلى تهرب مطلق من المسؤولية، فما دام «الفساد» هو المسؤول يصبح لا أحد مسؤولا عن وضع البلاد ومآلاتها..
ما يطالب به التونسيون حكامهم اليوم هو العمل، بداية، على استرجاع فاعلية الدولة وقدرتها الانجازية وان تتخلص من بيروقراطيتها.. وان تكافح الفساد بالمراقبة البعدية لا بتعقيد إجراءات الرقابة القبلية، كما فعلنا في رخص استكشاف النفط، فينتج عن هذا التصور الطهوري لمقاومة الفساد مزيد من الركود والجمود ونزع
المسؤولية بالكامل عن الفاعل الإداري والاقتصادي ..
ولكن قبل كل شيء، لابد من تحقيق جدي يضبط مسؤولية كل الأطراف في هذه الفاجعة الأليمة بما في ذلك مسؤولية الدولة لو ثبت تقصير في التحذير أو في توفير الشروط الدنيا للسلامة وان يتم التعويض سريعا لعائلات الضحايا والجرحى أيضا.. تعويضات لن تعوض بالمرة مرارة ولوعة فقدان الأبناء والبنات والأخوة والأخوات والأحبة ولكن التحقيق الدقيق والمنصف والتعويض الملائم لهذا المصاب الجلل خطوة جماعية من اجل تصرف أنساني وعقلاني في ذات الوقت ،في انتظار أن يقول لنا حكامنا الجدد ماهي أفكارهم ومشاريعهم لبداية الإصلاح الفعلي .