حركة النهضة والتونسيون: «الحمامة الزرقاء» التي تخيف • الحركة الإسلامية خسرت معركة الوسط

عندما نتمعن في النتائج العامة للانتخابات الرئاسية والتشريعية الفارطة نلاحظ أن من بين أحزاب الحكم التي ساهمت في إدارة

الشأن العام منذ 2011 وحدها حركة النهضة حافظت على توازنها وعلى حد أدنى من الوجود والتأثير مما سمح لها بالتقدم في التشريعية رغم تراجع نسبة المصوتين لها وتراجع عدد ناخبيها ..فالنهضة رغم فقدانها لحوالي تسعمائة ألف ناخب خلال ثماني سنوات مازالت هي الحزب الأول في البلاد ..

ولكن ما كشف عنه أول باروميتر سياسي ننشره بعد الانتخابات (انظر «المغرب» يوم الأحد 17 نوفمبر) أن حركة النهضة بقيت بالنسبة لنصف التونسيين حركة مرفوضة بالمرة وهي لا تحظى بثقة حوالي %70 من المستجوبين كما أن %76.6 لا يثقون في زعيم النهضة راشد الغنوشي وأن ثلثي التونسيين(%67.1) لا يثقون فيه تماما كما يتمنى حوالي %80 من العينة ألا يلعب زعيم النهضة دورا سياسيا في مستقبل البلاد .

فالنهضة رغم انتصارها النسبي في الانتخابات التشريعية تبقى الحزب الأبعد عن قلوب التونسيين كحزب أولا وكقيادات سياسية ثانيا إذ نجد أن أهم قيادييها اليوم راشد الغنوشي وعلي العريض من ضمن الثلاثي الأدنى ثقة في تونس اليوم .

ما الذي يفسر هذه المفارقة ؟
لعله يجب أن نعود إلى بدايات بروز التيار الإسلامي ،أو ما نسميه اليوم بالإسلام السياسي ،في بداية سبعينات القرن الماضي لنرى كيف تشكلت عناصر النفور المجتمعي من هذه «الدعوة» الجديدة..

أول ما ظهر التيار الإسلامي في تونس حرص حرصا شديدا على التميز والتمايز الديني فأتباعه لا يصلون كما يصلي سائر التونسيين (اختيار القبض بدل السدل) ولا يصومون ولا يفطرون كما يفعل التونسيون رفضا منهم لاعتماد الدولة على الحساب الفلكي ولا يصافحون النساء،رجالهم ملتحون ونساؤهم محجبات كما لم يعهد ذلك من قبل المجتمع التونسي ..

هذه المظاهر الأولى والأساسية التي ميزت بروز التيار الإسلامي في تونس منذ بدايته جعلت من الحركة نوعا من الطائفة الدينية (une secte) الجديدة،عملها الأساسي هو هدم المشترك الثقافي والديني والتقاليد التي ترسخت في المجتمع التونسي عبر الأجيال المتعاقبة بدعوى شركية وحتى كفرية أهم مقومات الإسلام المعيش والتبشير بإسلام سلفي وهابي متشدد أخاف المتدينين قبل غيرهم .

صحيح أن عقودا مرت على ظهور التيار الإسلامي ،وأن إسلاميي اليوم لم يعودوا يعملون في خطابهم على هدم مقومات المشترك الثقافي والديني بل يسعون جاهدين ما أمكنهم في ادعاء الانخراط فيه.

ولكن الصلف الذي ظهرت به الحركة الإسلامية في حكم الترويكا خاصة احيى من جديد نقاط التوتر هذه لا فقط عند النخب بل كذلك عند أجزاء هامة من المواطنين وخاصة من المتدينين منهم لاسيما بعد أن عاثت الجماعات السلفية المتطرفة فسادا واعتدت على أضرحة الأولياء وسعت إلى منع الاحتفال بالمولد النبوي ومارست العنف مع المختلفين إلى حد المرور إلى الإرهاب والاغتيالات السياسية، كل هذا أذكى جراحات الماضي وجعل التونسيين منقسمين اشد الانقسام حول الإسلام السياسي بصفة عامة وحركة النهضة بصفة خاصة .

لا يمكن أن نفهم عمق أزمة نهاية حكم الترويكا في 2013 بدون هذه الخلفية التاريخية والذهنية مع ما انضاف إليها من ممارسات في الحكم اذكتها وعمقت الانقسام المجتمعي حولها وأصبح الخوف من أخونة المجتمع عنصرا سياسيا فعالا أدى إلى هزيمة النهضة في الانتخابات العامة في خريف 2014.

لقد سعت قيادات الحركة الإسلامية منذ نهاية الترويكا إلى تعديل صورتها لدى الرأي العام وتقديم نفسها كحزب سياسي مدني مثله مثل بقية الأحزاب الأخرى وان معارك الهوية قد تم حسمها بالدستور وان التعاون هو الأساسي في الحياة السياسية تحت مسمى «التوافق» وسعت إلى تطوير مفهوم «الإسلام الديمقراطي» المبني على الفصل بين الدعوي والسياسي، كما شرّكت شخصيات من خارجها في قائماتها في البلدية وإلى حد ما في التشريعية ولكن «الشياطين القديمة» تطل بأنفها بين الفينة والأخرى لتقول لعامة التونسيين انه مهما كانت التطورات والمراجعات فان جوهر الإسلام السياسي القائم على هدم المشترك الثقافي والمتصرف كطائفة (une secte) وأن رئيسها شبيه بزعيم طائفة (un gourou) ومازاد في ترسيخ هذا الاعتقاد الحملة الانتخابية لحركة النهضة و«خط الثورة» الذي تدعي تزعمه والذي يفهم عادة بانه عودة لثوابت الإسلام السياسي الأساسية وما تقارب الأخيرة مع ائتلاف الكرامة الا تاكيد على هذا المنحى .

ولكن ما يضاف إلى كل هذا حتى عند القاعدة الانتخابية المتعاطفة مع الأطروحات الاسلاموية هو إطناب حركة النهضة في التلون حسب المصلحة الحزبية وإخلافها لوعود كثيرة قطعتها على نفسها مما اضعف شعبيتها حتى عند قاعدتها التقليدية .

وكنتيجة لهذا نجد ان الثقة الكبيرة في حركة النهضة ضعيفة للغاية وهي لا تتجاوز %8.4 من التونسيين بينما يتصدر هذا الترتيب طيف آخر من الإسلام السياسي وهو ائتلاف الكرامة بـ%13.7 كما أن منسوب الثقة الكبيرة في أحزاب كالتيار الديمقراطي (%12.9) والدستوري الحر (%12.5) وحركة الشعب (%11) وقلب تونس (%10.9) وتحيا تونس (%9.7) هو ارفع من منسوب النهضة من الثقة الكبيرة بما يفيد أن ناخبي النهضة تقريبا هم فقط من يثقون بها ليس إلا .

وكذلك تتصدر النهضة ترتيب النظرة السلبية جدا للأحزاب السياسية بـ(%50.2) متقدمة قليلا على حزب نداء تونس (%49.4 )ولكن الفرق هو أن هذا الحزب الثاني قد اندثر تقريبا بينما مازالت حركة النهضة هي الحزب الأول في البلاد ولو أخذنا الرأي السلبي فيها عامة (أي جمع الرأي السلبي جدا مع الرأي السلبي إلى حد ما ) لوجدنا أن هذه النسبة تتجاوز ثلثي التونسيين (%69.4)

لعلنا هنا أمام أهم درس للانتخابات التشريعية السابقة ولحقيقة مقبولية الأحزاب السياسية عند عامة التونسيين ..

صحيح ان حركة النهضة قد تقدمت على كل منافسيها ولكن الحركة قد خسرت ما يسمى بمعركة الوسط ، أي رهان تقديم نفسها كحزب مدني معتدل عادي كسائر الأحزاب الأخرى .

النهضة رغم شعارها ،لم تتحول بعد إلى حمامة عند أغلبية التونسيين وهي اليوم وقد أمسكت بتلابيب السلطة تلعب بمستقبلها السياسي في البلاد فإما أن تثبت للجميع بأنها فعلا حزب مدني يعمل على المشترك الثقافي ويجتهد لإصلاح أوضاع البلاد ام انه حزب منغلق على نفسه علاقته بالسلطة هي فقط علاقة خوف ومنافع ..

لاشك لدينا أن هذه الخماسية ستكون حاسمة لحركة النهضة ولمصير تونس أيضا .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115