التضارب في مستوى تقييم النتائج فوردت كلمات من قبيل «الزلزال»، «الصدمة»، «الرجّة»، «العرس الانتخابي»، «الاستثناء التونسي» ... وسرعان ما حدث الاستقطاب في الفايسبوك بين أنصار المترشّح «الملغز» قيس سعيد والمعبّرين عن مساندته في الدورة الثانية من جهة، والرافضين لتولّي هذا «الوافد الغريب» رئاسة الجمهورية، والمنتصرين لنبيل القروي، من جهة أخرى. وصار النقاش باتجاه وضع الأستاذ سعيّد تحت المجهر. فصار البحث عن «أصله وفصله» و«فضائله ومثالبه» وتعدّدت الشهادات والنصوص المكتوبة والمرئية لتوّظف في المحاججة . ونلمس وراء هذا الجدل ومحاولات إضفاء الشرعيّة الأخلاقية والتأكيد على «نظافة» المترشّح في مقابل التنديد بـ«فساد» المترشّح الثاني الطرق التي يتمّ من خلالها تشكيل صورة المترشحين، والتي لا تفارق نظام الثنائيات المتقابلة: الأخلاق/السقوط الأخلاقي، الطهر/النجاسة، المعرفة بالواقع/الجهل، الاستقامة/الفساد..، وهو نظام يحدّد فهمنا للسياسة والدين والمجتمع والحياة والكون.
غير أنّ ما يلفت الانتباه في مختلف ردود الفعل، والنقاش العامّ الذي أحدث ديناميكية لاشكّ في ذلك بروز فاعلين قدم/جدد طالما كانوا مغيّبين من دائرة الفعل السياسي في السنوات الأخيرة أو اختاروا من تلقاء أنفسهم عدم المشاركة في الشأن السياسيّ عموما. وقد كشف حضور هؤلاء بقوّة في النقاش المحتدم حول المترشّح قيس سعيّد عن تصميم الشباب أوّلا: على استعادة الدور الذي يرون أنّه ملقى على عاتقهم باعتبارهم من «هندس الثورة» ، وثانيا: التموقع السياسي من جديد. وهو تحوّل ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار لاسيما وأنّه أخرج الشباب من اللامرئية إلى المرئية، ومن الاستقالة أو التهميش إلى الفاعليّة.
ولكن هل فهم الفاعلون السياسيون التغيير الذي حدث في المواقع إذ أنّ من كان في الهامش ومنسيّا في لعبة توزيع الامتيازات والمصالح أصبح في المركز، وها هو وراء الفعل في الواقع السياسي ؟ وهل كانت لهؤلاء السياسيين الجرأة المطلوبة للاعتراف بأنّهم غفلوا عن إدراك هذا المعطى؟
نُتابع ردود المترشّحين الذين عبّروا عن مواقفهم من النتائج فنتبيّن اعترافهم بـ«التقاط مجموعة من الرسائل» التي ستؤخذ بعين الاعتبار من أجل تحسين أدائهم في المستقبل واستدراك الأخطاء ولا غرابة في ذلك فما يهمهم هو الكسب، والتموقع، لذا لا نكاد نعثر على تحليل معمّق للأسباب التي جعلت شريحة هامّة من الناخبين تلفظ الطبقة السياسيّة.
ويبدو جليّا أن لا أحد كان واعيا بأنّ وراء قيس سعيّد فئة من الشباب الراغب في التغيير/الانتقام،/معاقبة الطبقة السياسية برمّتها/الركض وراء الأحلام أو اليوتوبيا أو العبث. والواقع أنّ من كان متقوقعا على ذاته محاطا ببطانة متعطّشة للسلطة ليس بمقدوره أن ينتبه للتحولات الاجتماعية ولا لمنظومة القيم المتقلّبة ولا أن يصغي إلى أصوات شبابية تعبّر عن ذاتها بأشكال مختلفة : البحث عن معنى في الانضمام للجماعات المتطرفة ، الاحتراق ، الإدمان، الهجرة، الانتحار،.. وهي أشكال تُخبر عن أزمة ثقة وإحباط وشكّ في المستقبل. فبعد سنوات من التحوّل لم يتحقّق لهم ما كانوا يحلمون به أو يتوقّعون حدوثه ولذا آن الأوان لأخذ زمام الأمور دفاعا عن مستقبلهم.
لا يُمثّل الشباب كتلة متجانسة من حيث الانتماء الطبقي، والاجتماعي، والأيديولوجي والمستوى التعليمي ودرجة الوعي و... ومع ذلك يصرّ المتحدّثون عنهم، ونيابة عنهم من محلّلين وخبراء وإعلاميين ، وجامعيين على أنّهم لا يفهمون الوضع وإكراهات اللحظة وليست لهم المعرفة المطلوبة ولذلك فإنّهم «يلعبون بالنار» باصطفافهم وراء قيس سعيّد . ولكن ألم يتعمّد الإعلام الخاصّ على وجه الخصوص، والإعلام العامّ وإن بدرجة أقلّ، تهميش الشباب الذي نسج خطابا مختلفا عن السائد بخصوص الشأن العامّ؟ ألم يؤثث أهل الإعلام برامج الترفيه السطحي التي تساهم في تشويه الواقع وإحداث حالة من الاستلاب.؟
إنّ ما حدث على هامش الانتخابات يشير: أوّلا إلى أنّ طريقة تمثّل أغلب السياسيين والإعلاميين ، وغيرهم للشباب تعمّق الهوّة بين الأجيال، وثانيا إلى أنّ السياسات التونسية لا تساير ما يحدث في العالم من تغييرات مهمّة بشأن تشريك الشباب في صياغة السياسات وأخذ القرارات وفق قاعدة تكافؤ الفرص ونحت معالم المجتمع الإدماجي.