سنجد أنفسنا أمام مترشحين حزبيين في التشريعية وفي الرئاسية وآخرين نصطلح عليهم بغير المتحزبين والذين قد يتقدمون في قائمات مستقلة أو ائتلافية في التشريعية في انتظار الصيغة التي قد يختارونها للترشح للرئاسية..
يبدو أن الأمر معتاد وانه لا جديد تحت الشمس ، ولكن هذا التقسيم بين المتحزبين وغير المتحزبين يخفي وراءه معطيات جديدة قد تغير المشهد السياسي القادم رأسا على عقب.
في 2011 وفي 2014 جل المستقلين كانت لديهم طموحات محدودة ولا تتجاوز في الأغلب الأعم حدود الدائرة الانتخابية وقد انقسم آنذاك المستقلون بين الشخصيات الاعتبارية ومناضلي المجتمع المدني من جهة والوجاهات المحلية والمالية من جهة أخرى .. وكان هنالك أيضا بعض المغامرين الذين حلموا بافتكاك السلطة عبر المال والإعلام ولكن هؤلاء اختاروا الشكل الحزبي الذي كانت له جاذبية مهمة في تلك الفترة ..
اليوم بقيت الأمور على ظواهرها ولكن جاذبية الأحزاب قد تراجعت كثيرا وأصبح اختيار الشكل اللاحزبي بل المعادي للأحزاب هو الأفضل لمغامري سنة 2019، وهؤلاء أضافوا إلى المال – وهو ينفق الآن بلا حساب – والإعلام طريقة جديدة / قديمة في خلق شبكة من الزبائن/ الموالين عبر «الاتصال المباشر» لا لتبليغ الأفكار والمواقف والبرامج كما كان يفعل ذلك الزعيم الحبيب بورقيبة بل لمنح الإعانات والمساعدات والهدايا وبعض الخدمات ، كل هذا بصفة علمية منظمة حتى تشمل أوسع عدد من التونسيين..
قد يقول بعضهم وما الضير في ذلك ما دام يتم الأمر وفق مقتضيات القانون وبقبول الناس وعدم استهجانهم ..
لنترك الجزء الثاني من الملاحظة ولنهتم فقط بنصفها الأول المتعلق بالقانون .
القانون كنصوص وفلسفة وقيم.
لا وجود لنص قانوني يحدد ما هي «الحياة السياسية» ولكن مرسوم الأحزاب الصادر في سبتمبر 2011 يحدد في فصله الثاني مفهوم الحزب السياسي ويعرفه بكونه «جمعية تتكون بالاتفاق بين مواطنين تونسيين يساهم في التاطير السياسي للمواطنين وفي ترسيخ قيم المواطنة ويهدف إلى المشاركة في الانتخابات قصد ممارسة السلطة في المستوى الوطني أو الجهوي أو المحلي».
ترى ألا تندرج كل المبادرات السياسية المستقلة في هذا الإطار ؟ وألا تندرج نشاطات نبيل القروي المعلن يوم أول أمس ترشحه للرئاسية وللتشريعية أيضا وألفة تراس وجمعيتها «عيش تونسي» ضمن هذا الإطار أيضا ؟ «جمعية (..) تهدف إلى المشاركة في الانتخابات قصد ممارسة السلطة».
لا يعني كل هذا أن تدخل كل المبادرات المستقلة بأصنافها المتعددة داخل القالب الحزبي ولكن الديمقراطية والنزاهة تفرضان على كل من يريد المساهمة في ممارسة السلطة عبر الانتخابات أن يلتزم بضوابط اللعبة السياسية كما يحددها القانون ، وإلا كنا أمام خرق فاضح وصريح لمبدإ المساواة بين المواطنين المتضمن في الدستور إذ نفرض جملة من القواعد على المترشح المتحزب بينما نعفي منها المترشح غير المتحزب ..
نعود لمرسوم الأحزاب حيث نجد في الفصل 18 «يحجر على كل حزب سياسي تقديم أية امتيازات مالية أو عينية للمواطنين او للمواطنات» كما نجد في الفصل 19 جملة من القيود الأخرى منها تحجير « تمويل مباشر او غير مباشر نقدي أو عيني صادر عن أية جهة أجنبية» وكذلك تحجير «المساعدات والتبرعات والهبات الصادرة عن الذوات المعنوية» (اي المؤسسات أو الإدارات) وأخيرا تحجير «تبرعات وهبات ووصايا صادرة عن أشخاص طبيعيين تتجاوز قيمتها السنوية ستين ألف دينار بالنسبة لكل مانح» هذا جزء من الإطار القانوني الذي ينظم عمل الأحزاب على امتداد السنة والحزب المخالف لهذه القوانين يعرض نفسه للمتابعة الجزائية ، ولكن هل يحترم كل المترشحين غير المتحزبين هذه المقتضيات ؟
الواقع اليوم هو استغلال بعضهم للإطار الجمعياتي لخرق روح القانون وجوهره وفلسفته بتكوين يافطة بواسطة تدفقات مالية تتجاوز مئات المرات ما يسمح به للأحزاب وبضخ اموال ضخمة في وسائل الإعلام للتعريف بالشخص أو بالجمعية ثم عندما تقترب المواعيد الانتخابية يتم خلع الجبة الجمعوية والالتزام ، مبدئيا ، بضوابط الحملة الانتخابية خلال شهرين ونصف فقط !!
هذا هو ما نحن بصدد مشاهدته اليوم عند بعض «الشبكات الجمعوية» وبخاصة «حراك» نبيل القروي و«عيش تونسي» ويبدو ان هذه الممارسات تسربت أيضا إلى مبادرات أخرى وإن كان ذلك بنسب أكثر تواضعا.
قد يتصور بعضهم أن هذا «ذكاء» خارق و«خبث» محمود ولكن العواقب ستكون وخيمة لأنهم بذلك يقضون على المنسوب الضعيف للثقة لا في الأحزاب فقط بل في الجمعيات الخيرية أيضا إذ سيصبح كل عمل تعاوني مدعاة للشبهة والارتياب ..
هذه المخاوف لا تنطبق على جلّ المبادرات المواطنية التي تريد إذكاء روح السياسة والنضال وتهرب من القوالب الحزبية لأنها لا تؤمن بجدواها الحالية لا تهربا من التبعات القانونية والأخلاقية التي أشرنا إليها آنفا.
نحن نعلم مسبقا أن أصواتا عديدة سترتفع هنا وهناك للتنديد والاستنكار داعية لإعطاء «فرصة» لهذه التجارب الجديدة بعد أن فشلت كل الأحزاب في تحقيق مطالب الناس وان «التهجم» على هذه «الجمعيات» إنما المقصود منه الدفاع عن المنظومة الحزبية المهترئة..
ونحن نعلم أيضا أن منظومة الأحزاب أعطت أسوأ مثال في احترام القانون والأخلاق وأن بعض الاستهداف الذي يوجه لهذه الجمعيات إنما هو بهدف الدفاع عن منظومة حزبية حاكمة اتضح فشلها وعجزها عن إدارة الدولة .
ولكن عدم احترام عمرو للقانون لا يعني التغاضي عن خروقات زيد.. بل يعني التنديد بكل تجاوز للقانون ولفلسفته ولقيمه سواء قامت به أحزاب بعينها أو «جمعيات» تحاول الوصول إلى السلطة بطرق اقل ما يقال فيها بأنها مخالفة للقانون ولفلسفته ولقيمه..
فعلا ستكون انتخابات 2019 مرحلة مصيرية في تاريخ تونس لا فقط لاختيار من سيحكمها ولكن بالأساس كيف وبماذا سيحكمها ..