هذا الارتباك، إذ أن حماسة المجتمع المدني التونسي لم تولد إقبالا كبيرا على الانتخابات، والامتناع عن المشاركة لم يخص بشكل ملفت فئة اجتماعية بعينها، ففي حين صوت الكهول والشيوخ للأحزاب الأكثر تجربة والأكثر إمكانيات، صوت الأصغر سنا بصفة عامة لقائمات تصدرت نتائج الانتخابات وتقول أنها مستقلة، بينما تتصرف الأحزاب الحاكمة حيالها من غير يقين.
وكيفما قلب المعنيون المباشرون النتائج لحاجتهم للتحالفات والتفاهمات، فإن هناك نتيجة استراتيجية في غاية الأهمية، لم يخطط لها أحد بسبب الإرث الثقافي السياسي الذي لفت النخبة السياسية نفسها به، دون وعي وتقدير للعواقب، فعاقبها الناخبون على ذلك. هذه النتيجة لخصها مازحا بعض الشباب بالقول «سنذهب للعيش في الوردانين، حيث الجمال والنجاح»، وهم يعنون نجاح قائمة الورد المستقلة في المرتبة الثانية، وعلى رأسها امرأة جميلة، ناشطة في المجتمع المدني، ومستثمرة اقتصادية ناجحة وقد حدث هذا في عقر دار الدستوريين وبلغة جديدة لم تجعل من هذا الارث العتيد مرجعيتها الأولى، كل متغيرات تونس الجديدة مجتمعة: الشباب أي المستقبل، والجمال أي البيئة، وخدمة الصالح العام أي العدالة، والنجاح في خلق الثروة أي الشغل والتنمية !
لا أظن أن أبعاد هذا التحول قد تبلورت بعد في أذهان أفراد الطبقة السياسية، سواء نجحت القائمة المذكورة أو لم تنجح في تغيير حياة الناس إلى الأفضل في مدينة الوردانين. إن الانتخابات البلدية التونسية قد فتحت عهدا جديدا سيقلب كل المعادلات في الحياة السياسية التونسية، وربما العربية إذا ما سرت الصحة في الجسد العليل: في الوقت الذي يتبادل فيه أفراد النخبة السياسية الهزيلة السب والشتم، متهمين بعضهم البعض بحب الزعامة دون أن يكون أي منهم زعيما، جاءت الانتخابات البلدية لتذكرهم بأن الزعامة تبنى بالعمل من أجل الناس لا من أجل السياسة. وجاءت خاصة لتعيد الأمور إلى نصابها، وهي أن الأصل في العمل السياسي تعدُدُ ديناميكيات إنتاج الزعامة في المجتمع، لا احتكارها وتوريثها بالاستعانة بوسائل الدولة القهرية.
لقد دمرت الدولة الحديثة الزعامات البدوية المحلية القديمة، وسحب التعليم وعلوم الطب والقوانين الوضعية من الزعماء الطرقيين قدرتهم على تحديد مصائر الناس، ومنعت النظم ذات الحزب الواحد المواطنين الطموحين من كسب احترام الناس وتشيُعهم لأفكارهم بشكل مستقل عن الزعيم الأوحد وعصابته ودولته.
واليوم تعيد الانتخابات البلدية لهذه الديناميكية روحها، سيقاس الزعماء بمدى استعدادهم وقدرتهم على خدمة الناس في نطاق بلدياتهم، لا بمدى خدمة هرم الحزب الواحد في المركز. لقد قال لي ذات يوم بعد الثورة أحد الناشطين السياسيين في التجمع الدستوري الديمقراطي بسيدي بوزيد: «عدينا عمرنا يهزوا بدينا في الجمر». الآن كل يحمل جمره بيديه، يكافح في خدمة الناس، يتصرف بحرص في مال المجموعة المحلية في سبيل تحقيق مصالحهم الجماعية، يبني من ماله الخاص معالم عظيمة يتساوى في الانتفاع بها المواطنون قبل المؤمنين. كل مدن تونس العريقة التي اندثر بناؤها والتي مازالت شامخة ومعمورة إلى اليوم مليئة بالشواهد التي تدل على خدمة القادة لعموم الناس في المدن التي عاشوا فيها، وخلدتهم نقوش تذكر اليوم بأفضالهم على سكان مدنهم.
على أفراد الطبقة السياسية التونسية أن يعوا الدرس جيدا، فيغلقوا دكاكينهم البائسة، ويغادروا مبادئ «الشطارة في الانتهازية» التي أرضعهم إياها النظام البائد، وأن يطردوا من بين ظهرانيهم، شر طردة، رموز هذه المبادئ. من اليوم فصاعدا ستكون الزعامة في النجاح على المستوى المحلي قبل كل شيء، النجاح وفق قيم الشباب، والمساواة بين المرأة والرجل، وجمال البيئة، والاستثمار ونظافة اليد والعدالة.
أهلا بالمستقبل، بالزعيمات والزعماء الجدد. وداعا يا رموز دكاكين السياسة للسياسة.