في إصلاح منظومة تعليمية مهترئة. فهل نلوم فئة من المجتمع تعيش منذ سنوات معاناة وأزمات أم أنّه كتب على الجامعيين أن يحافظوا على ماء الوجه، وأن يواصلوا تحمّل تبعات الأزمات بصمت وتعفّف بدعوى أنّ النخب لا يجب أن تمارس البكائيات والشكوى وأن «تستجدي» ؟ لقد بلغ السيل الزبى وسقطت الأقنعة وما عاد بالإمكان التظاهر بامتلاك القدرة على الصمود والمقاومة. ونقدّر أنّه آن الأوان لتغيير الصور النمطية التي تسيّج الجامعيين ونزع الأسطرة. فالجامعيّ مثله مثل سائر الفئات الاجتماعية يعاني، يفقد الأمل، يضيع حلمه في مسارات وسياسات لا يشرّك فيها ، ويبحث عن حلول مستعجلة حتى وإن أدّى الأمر إلى شدّ الرحال إلى بلدان ما كان يتوقّع أنّه سيعيش فيها.
لطالما نظرت الدولة الحديثة إلى قطاع التعليم العالي على أساس أنّه معين يمكن أن يوفّر القيادات التي تساهم في بناء المشروع الوطني والتنموي ومن ثمّة لمعت أسماء من الجامعيين الذين أدّوا أدوارا جليلة في سبيل بناء تونس. ولكنّ منظومة الاستبداد سرعان ما وظفّت عددا من الجامعيين لخدمة مشاريع سلطوية تخدم الحاكم ومن يدور في فلكه. وهكذا برزت صورة جامعيين ساهموا في إضفاء الشرعيّة على قوانين وسياسات كرّست التفاوت الطبقي، والجهوي وساهمت في انتهاك حقوق الناس. والثابت أنّ هؤلاء الذين انتفعوا من منظومة الفساد والاستبداد ظهرت عليهم أمارات الرفاه واستمتعوا بامتيازات حسدوا عليها لم لا وأغلبهم من وزراء «بورقيبة» أو «بن عليّ» يصولون ويجولون ويقطعون صلتهم بالغوغاء صونا لمنزلة وموقع اجتماعي مرموق.
ولكنّ المتأمّل في حيوات المنتمين إلى قطاع التعليم العالي ينتبه إلى الغبن الذي أصاب البعض، وإلى المظالم التي لحقت كلّ من قاوم «الماكينة» .كما أنّه يدرك المصاعب التي يكابدها الواحد/ة في سبيل تحصيل الشهادات والارتقاء في السلّم الوظيفي. ولأنّ أغلب الجامعيين لا يمثّلون موضوعا إعلاميا يمكن استثماره فلا استقصاء ولا متابعات ولا اهتمام بمكابدة من يطلب منه تمويل مشاريعه البحثية على حساب أولوياته المعيشية أو من يضغط عليه رؤساء المؤسسات حتى يدرّس ساعات اضافية أو يشرف على الأطاريح أو يناقشها في فترة وجيزة وغيرها من المهام التي توكل لموظفين لا تُثمّن مجهوداتهم لأنّها غير مرئية.
ولعلّ تمثّل أغلب التونسيين للجامعيّ/ة على أساس أنّه المثقّف الذي يظهر في صورة «جميلة» يسوّق لأفكاره ويتحدّث عن إبداعه ورهانات المعرفة ورؤيته للواقع... ينمّ عن وقوع أغلبهم تحت أسر منظومة التنميط وعدم قدرتهم على التفريق بين مختلف المنضوين تحت قطاع التعليم العالي، وعدم المامهم بمسار البحث وظروف العمل داخل الجامعات التي باتت مخجلة، ومقرفة.
كان بإمكان الجامعيين أن يواصلوا تقديم التضحيات وأن يتغاضوا عن عدّة مطالب لو كانت سلطة الإشراف تقدّر منظوريها وتستشيرهم في السياسات وتصغي لخطاباتهم... كان بإمكان الجامعيين تحمّل الأعباء والمشاق لو كان الوزير يولي اهتماما بالإنسانيات ويدافع عن ميزانية البحث العلمي الذي يعدّ ضمانة حقيقية لحماية المجتمع من الأزمات التي تعصف به... كان بإمكان الجامعيين أن لا يحتجّوا إن كانت الحكومة ونوّاب الشعب وغيرهم من أصحاب السلط... ينظرون إليهم باحترام ويدركون حجم الأعباء التي تقع على كواهلهم . فمن من هؤلاء يعرف مسار الجامعيّة التي تنهض فجرا لتقصد جامعتها في الجنوب، تقضّي ساعات في الطريق بسبب قطع الطرقات والاحتجاجات المتواصلة لتصل منهكة فتؤدي دورها دون تذمّر؟ ومن منهم يدرك حجم الملفات والأطاريح التي يصلحها الجامعي بسبب غياب الاختصاص نتيجة توقف الانتدابات؟ من منهم يعرف الأموال التي يصرفها الجامعي على البحث والتأليف؟
غاية ما يعرفه الناس أنّ الجامعي يدرّس بضع ساعات ويتقاضى مرتّبا هامّا ولا يعيش إلاّ بين رفوف الكتب... وهي صور نمطية لا نريد أن نفكّكها... وإلى حين تعلّم الوزير فنّ الإصغاء واحترام كلّ الفاعلين في القطاع وتغيير زاوية النظر وتشكّل رأي عام منصف وواقعي... سأهاجر.