وتجد تونس نفسها ضمن دول عرفت بكونها ملاذات ضريبية منذ فترة كالبارباد وجزر مارشال وجزر أساموا والبانما..
ونزل الخبر كالصاعقة على الناشطين الاقتصاديين وخاصة منهم المشتغلين في قطاع التصدير إذ تبين بعد التحري بأن النقد الأساسي الذي يوجهه الاتحاد الأوروبي إلى تونس هو اعتمادها على نظام ضريبي تفاضلي بين الشركات المصدرة كليا والشركات التي تشتغل على السوق الداخلية..
فلقد اعتبر مجلس وزراء المالية التابع للاتحاد الأوروبي أنّ هذا النظام التفاضلي الجبائي يشجع على نوع من المنافسة غير الشريفة قد ينتج عنه تحويل عدة نشاطات صناعية لدولة المنشأ من الاتحاد الأوروبي إلى تونس..
فتونس ليست ملاذا لتبييض الأموال بل لجلب استثمارات بالاعتماد على إيجاد نظام ضريبي تفاضلي حيث تعفى الشركات المصدرة من الضريبة على الشركات (مقابل %25 للشركات المشتغلة على التراب الوطني )ولا تدفع إلا %5 حاليا كضريبة على توزيع المرابيح (سيتم الترفيع في هذه الضريبة إلى %10 وفق مشروع قانون المالية لسنة 2018)..
الإشكال مع الاتحاد الأوروبي قائم منذ سنة 2016 ولكن يبدو أن هنالك تقصيرا في التواصل من الطرفين أدى إلى هذه الوضعية التي تجنبها بلد كالمغرب الأقصى رغم إعفاء الشركات المصدرة من الضرائب هنالك أيضا..
ولكن لا داعي للهلع فالقائمة التي أصدرها وزراء المالية الأوروبيون قائمة وقتية وسوف تتم مراجعتها في شهر جانفي 2018 وكل المؤشرات تدل على خروج تونس من هذه القائمة «السوداء» ..
ولكن ما حصل ليس أمرا طبيعيا كذلك وينبغي أن نحاسب أنفسنا أولا وان نتحاور مع شريكنا الأوروبي ثانيا حول فلسفة النظام الضريبي التونسي وحول استحالة التسوية بين النظامين التصديري والعام ..
ينبغي ان نعلم أن كل المنظمات المالية الدولية تطالب جميع دول العالم الثالث منذ أكثر من العقد بأن تسوي في نظامها الجبائي بين المؤسسات المصدرة كليا والمؤسسات الأخرى باعتبار أن التعامل التفاضلي مع المؤسسات المصدرة من شأنه خلق منافسة غير عادلة بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين بالاعتماد على عنصر التحفيز الجبائي الكبير..
وقد سعت بلادنا قدر الإمكان أن تدافع عن اختيارها الجبائي هذا وتقديمه لشركائنا في الخارج باعتباره ضروريا للابقاء على جاذبية تونس للاستثمار الخارجي (وجلّ هذا الاستثمار أوروبي في القطاع الصناعي) وللمحافظة على أكثر من ثلاثمائة ألف موطن شغل صناعي وان هذه الحاجة قد ازدادت بعد الثورة وانه من غير المعقول اليوم أن نهدد استقرار منشآت صناعية هامة بدعوى المساواة في التعامل الجبائي بين المصدّر وغيره..
وما ينبغي أن يفهمه شركاؤنا الأوروبيون أن هذه السياسة التفاضلية لا تجعل من تونس ملاذا ضريبيا للمضاربات المالية كما هو حال بعض البلدان بل شرطا من شروط تنمية النسيج الصناعي لبلادنا..
نريد أن نعتقد بأن شركاءنا التاريخيين في الاتحاد الأوروبي لا يمكنهم ألا يتفهموا الموقف التونسي المؤسس على تقييم موضوعي لحيوية نسيجنا الصناعي ..وهذا لا يعني بالطبع الا نتفاعل ايجابيا مع مخاوف بعض الدول الأوروبية وأن نبين للجميع بأن الاستثمارات الأجنبية في تونس لا تحطم مواطن شغل في أوروبا. بل لعله يسهم في إنقاذ بعض المؤسسات الصغرى والمتوسطة الأوروبية التي تعيش صعوبات ضخمة وأن نقل جزء من نشاطها في بلادنا من شأنه إعادة الحيوية لها.
ولكن ما لم نفهمه هو معارضة دولة أوروبية وحيدة لقرار وزراء المالية وصمت دول هامة هي في علاقة شراكة متقدمة مع تونس..
لم لم تتحرك هذه الدول المدركة أكثر من غيرها لهشاشة وضعنا الانتقالي اقتصاديا لتدافع عن تونس ولتبين للدول الأوروبية الأخرى التي تخشى من منافستنا لها بان هذا القرار «التقني» في ظاهره هو عين الخطأ السياسي وهو رسالة خطأ في الزمن الخطأ.؟!
قد يعود جزء من هذا إلى تقصير دبلوماسيتنا الاقتصادية والى عدم الاشتغال بجدية على هذا الملف المطروح على طاولة النقاش منذ افريل 2016..
ولكن تقصير ديبلوماسيتنا الاقتصادية لا يعفي أهم شركائنا من غياب المساندة الفعلية لنا في ملف فيه حيف واضح في التصنيف وإساءة لسمعة البلاد والحال أن هؤلاء الشركاء يعلمون عنا الكبيرة والصغيرة ويرددون صباحا مساء ويوم الأحد أنهم يساندون التجربة التونسية..
نحتاج اليوم إلى وقفة حازمة من الديبلوماسية التونسية وان نعيد النظر في آليات الإقناع التي نعمد إليها فمسائل كهذه يتم تناولها في أعلى مستويات الدول وبالاتصال المباشر بين المسؤولين التونسيين الأول ونظرائهم الأوروبيين ..
هنالك خطوة أولى ضرورية وهي سحب اسم تونس من هذه القائمة «السوداء» خلال الاجتماع القادم لوزراء المالية الأوروبيين وبعد ذلك لابد من خطوات أخرى نفسر بها سياساتنا ونشحذ الدعم لها من أصحاب القرار في الدول الأوروبية بدلا من هذا الانكفاء الجالب للضرر..
ولعله من المفيد أن نحدّد نحن في تونس ما هي مطالبنا من الشريك الأوروبي وما هي تعهداتنا كذلك حتى لا نبقى ضحية المفاجآت نظرا لغياب الاستباق الديبلوماسي في أعلى المستويات...
كما نعتقد أنه قد حان الوقت لتغيير جذري في سياستنا الاتصالية الخارجية والتي لم تتمكن إلى اليوم من تحويل التعاطف الكبير مع بلادنا في أوروبا وبقية دول العالم إلى إسناد فعلي للبلاد.