وعلى عكس ما يعتقده الكثيرون فإن ذلك لم يكن نتيجة سياسة «ممنهجة» من دولة الاستقلال لـ«نهب» ثروات الجهات الداخلية لخدمة الشريط الساحلي..بل عندما نتأمل بدقة أرقام الإنفاق العمومي في مجال التنمية على امتداد العقود الخمسة الأخيرة وعندما نعتمد على معدل الإنفاق السنوي بالنسبة للفرد الواحد لا نلاحظ تمايزا كبيرا بين الشريط الساحلي والمناطق الداخلية ولكن ،مع ذلك، فالبون في اتساع مستمر بين حيوية الشريط الساحلي (والذي لا يقف في صفاقس كما اعتدنا على ذلك بل ينطلق من بنزرت إلى مدنين) وبقية المناطق الداخلية، ويعود السبب الأبرز في ذلك إلى عنصرين اثنين :
- حيوية النشاط الاقتصادي المحلي في كل ولايات الساحل الشرقي لتونس وجلبها للاستثمار الخاص الوطني والأجنبي
- عجز الدولة عن خلق مراكز التفوق والامتياز في المناطق الداخلية وعجزها عن تسريع نسق النمو وخلق الثروة..
وعندما نقف مليا عند هاتين النقطتين نتبين حدود كل السياسات العمومية قبل الثورة وبعدها لقلب هذه المعادلة الجنونية..
الحلّ معروف عند الجميع : لكي نحدّ من التفاوت في التنمية الجهوية بين ولاية أريانة على سبيل المثال من جهة وإحدى ولايات الشمال الغربي أو الوسط الغربي من جهة أخرى لابدّ أن تكون نسبة النمو في هذه الولاية ارفع من نسبته في أريانة وذلك على امتداد عقد أو عقدين من الزمن على الأقل..من المهم أن تستثمر الدولة في البنية التحتية بكل أنواعها في طرقات سيارة سريعة وسكك حديدية وإيصال شبكات الماء والكهرباء إلى كل المواطنين والألياف البصرية والبلورية لخدمات الانترنات السريعة..ومن المهم أيضا أن تنشئ الدولة وأن ترعى كل الخدمات العامة من تربية وصحة وثقافة وبيئة.. ولكن هل يكفي كل هذا لخلق نمو اقتصادي بجهة ما ؟ وهل يكفي هذا النمو الناتج عن جهد الدولة أن يسمح لجهة داخلية بأن تتفوق في نسبة نموها على احدى الولايات النشيطة بالشريط الساحلي ؟
لم نجب بعد عن هذا السؤال لأن السلط العمومية لم تطرح بعد إشكالية التنمية الجهوية بهذه الشاكلة بل اكتفت برصد مشاريع تتعلق كلّها بالبنية التحتية أو بالخدمات العمومية ثم النظر إلى السماء لتمطر استثمارات خاصة وطنية وأجنبية لخلق النموّ الاقتصادي الفعلي..
ما ينقص جهاتنا الداخلية ليس فقط بنية تحتية ملائمة ولكن بالأساس نشاط اقتصادي ذاتي قادر على خلق الثروة ومواطن الشغل وديناميكية محلية مرتفعة تسمح لها باختراق الأسواق الوطنية في مرحلة أولى ثم الأسواق الدولية..
دون هذه المحركات القوية للنموّ ستبقى الجهات الداخلية مهمشة بالنسبة للشريط الساحلي حتى وإن حسّنا في بنيتها التحتية وفي الخدمات العمومية المسداة لأهاليها..
وغني عن القول بأن مواطن الشغل المدعومة من الدولة عبر مختلف آلياتها وشركات البيئة والبستنة لا تخلق ثروة فعلية دائمة وأن المشاريع الصغرى جدّا الفلاحية والحرفية والخدماتية لا يمكنها هي الأخرى أن تخلق شروط النمو الاقتصادي السريع..
لابدّ لهذه الجهات الداخلية من محركات نموّ قوية وضخمة تكون جاذبة بطبيعتها لاستثمارات وطنية وأجنبية ومهيأة لبعث نسيج كبير ومتنوع من المؤسسات الصغرى والمتوسطة.لنأخذ مثالا على ذلك ونحن نتحدث عن ولاية القيروان التي زارها مؤخرا رئيس الحكومة رفقة وفد وزاري هام..
ولاية القيروان متأخرة في كل مؤشرات التنمية الجهوية مثلها مثل كل ولايات الوسط الغربي (القيروان وسيدي بوزيد والقصرين) وكذلك ولايات الشمال الغربي (باجة والكاف وجندوبة وسليانة..)..
لو أخذنا قرارا سياسيا بتحويل العاصمة الإدارية للبلاد من تونس إلى إحدى معتمديات القيروان الأقرب إلى مطار النفيضة مثلا ، أو لو اخترنا منطقة متاخمة للولايات الثلاث للوسط الغربي وأقمنا فيها مدينة تصبح العاصمة الإدارية لتونس..ما الذي سيحصل ؟ سنبني مدينة عصرية تتسع لمائتي ألف ساكن أو تزيد مجهزة بكل ما تقتضيه عاصمة إدارية من مرافق عامة ومن أنشطة خدماتية وتكون بالطبع على مقربة من مطار دولي ومن شبكة طرقات سيارة.. تصوروا للحظات ماذا سيغير مشروع كهذا في جهة بأكملها دون أن يقلل هذا من شيء في نشاط وحيوية ولاية تونس ومدينتها والتي ستبقى العاصمة الاقتصادية والمالية بلا منازع..
صحيح أن مشروعا كهذا ، يستوجب استثمارات ضخمة على امتداد عشرية من الزمن ولكن تمويله لن يمثل إشكالا كبيرا في ظل شراكات متعددة مع القطاعين الخاص الموطني والأجنبي ، والنتيجة أننا سنغير بصفة جذرية في معادلة النمو لثلاث أو أربع ولايات على الأقل ..
وتصوروا أيضا قطبا جامعيا يضم اختصاصات التفوق في الشمال الغربي مثلا بأربعين أو خمسين ألف طالب مع كل ما يستدعي ذلك من مساكن ومبيتات للطلبة والأساتذة والزوار ومن خدمات فندقية وثقافية وتجارية مصاحبة..
وتصوروا أيضا مدينة جديدة في قفصة يقطنها كل أهالي الحوض المنجمي لنفصل بين السكن اللائق في بيئة مناسبة وموقع العمل في المعتمديات الأربع المنتجة للفسفاط كما اقترح ذلك سابقا على اعمدة «المغرب» الصديق مختار بوبكر. وتصوروا مدنا للصناعات الثقافية ومسالك سياحية جديدة للتعريف بتاريخ البلاد على امتداد ثلاثة آلاف سنة..وتصوروا ..وتصوروا ..
إنها ليست أحلاما وردية،إنها رؤية طموحة لتونس فقط لا غير ..
انه بإمكاننا اليوم أن نغير بصفة جذرية الانخرام المتوارث جيلا عن جيل بين مختلف جهات البلاد..وعندما نبدأ في معالجة جدية لهذا الانخرام فلن يستفيد فقط أهالي هذه المناطق بل وكذلك كل النشاط الاقتصادي للبلاد الذي سيجد أسواقا جديدة وقدرة شرائية أرفع..
وبالطبع لا ينبغي أن نغفل عن ضرورة خلق أجيال جديدة من نساء ورجال الأعمال في هذه المناطق الداخلية ،فنحن لا نريد جهات تستهلك الاستثمار الذي يأتيها من خارجها،بل جهات تنتج الاستثمار وتتنافس مع الجهات الأكثر نموا على أسواقها هي بالذات وتكون جذابة لمختلف أصناف الاستثمارات وتكون آلتها الإنتاجية قادرة على اختراق كل الأسواق ..
قد يلزمنا عقدان أو ثلاثة لتصبح تونس هذه التي نحلم بها واقعا بشريا وتنمويا معيشا ..ولكن لو سلكنا طريق الإبداع والحلم الواقعي والطموح الكبير فسنبدأ في تغيير المعطيات بصفة هامة منذ العقد الأول وسيكون شبابنا اليوم هو صانع هذا الحلم وهو المستفيد الرئيسي منه..
تونس لديها مكل مقومات النجاح ..ما ينقصها فقط هو حلم كبير وجرأة وجسارة على تحقيقه.