تحدثنا يوم السبت الفارط عن المجلد الإحصائي الضخم الذي أصدرته وزارة التربية يوم 15 جوان 2017 تحت عنوان «الإحصاء المدرسي للسنة الدراسية 2016 - 2017» عندما تعرضنا للنمو الصاروخي للتعليم الابتدائي الخاص. يحتوي هذا الإحصاء السنوي على أهم المعلومات الكمية حول المدرسة التونسية من السنة التحضيرية إلى الباكالوريا. وسوف نهتم اليوم بالداء العضال الذي ينخر لا فقط مدرستنا بل مجتمعنا بأسره ونقصد به آفة الانقطاع المدرسي أو التسرب المدرسي في الاصطلاح التقني..
في السنة المدرسية الفارطة(2015 - 2016) كان هنالك حوالي مليوني تلميذ (1.972.349 تحديدا) انقطع منهم عن التعلم 113.387 أي أكثر من تلميذ من أصل عشرين غادر المدرسة بلا رجعة الغالبية الساحقة من هؤلاء هي في التعليم الإعدادي والثانوي (101.580 متسربا) ولكن نشهد رغم ذلك تسرب 11807 تلاميذ من التعليم الابتدائي !!
هذه الآفة ليست وليدة اليوم فمنذ أكثر من عقدين ومدارسنا تقذف خارج أسوارها أكثر من مائة ألف تلميذ سنويا ، أي أكثر من مليوني تونسي خلال عقدين من بينهم ما لا يقل عن ربع مليون اطردوا من المدارس العمومية وهم في المرحلة الابتدائية ..
إننا أمام بعد آخر من أبعاد إخفاق المدرسة التونسية ولكننا نتعامل معه،نحن كلنّا، وكأنه قدر محتوم ..وكانّ الإخفاق المدرسي، بهذا الحجم، مسالة طبيعية فما دام هنالك نجاح هنالك حتما رسوب وبتعدد الرسوب يصبح ترسبا..أي وكأننا أمام معادلة رياضية تعكس واقعا ماديا طبيعيا لا يمكن الفكاك منه..
من نافلة القول التذكير بان التلاميذ ليسوا سواء أمام الانقطاع المدرسي فنحن أمام مستويين أساسيين من التمييز : التمييز الجهوي والتمييز الاجتماعي الثقافي ورغم الجهد الذي يبذله الإطار التربوي خلال السنة فان المدرسة التونسية ليست مُعَدّة ومُسْتعدة للتقليص من هذا التمييز وتعويض التفاوت الاجتماعي والثقافي والجهوي المفروض عليها من خارج أسوارها بنوع من تساوي الفرص داخلها..
والغريب أن المجلد السنوي للإحصاء المدرسي لا يوفر لنا معطيات حول الانقطاع المدرسي بالنسبة لمختلف المندوبيات الجهوية للتعليم (مندوبية لكل ولاية باستثناء ولايتي تونس وصفاقس حيث نجد فيهما مندوبيتين لكل واحدة منهما ) وذلك رغم نشر الوزارة لكتاب المعطيات عن الإحصاء المدرسي لكل مندوبية للسنة الثانية على التوالي ولكن المعطيات حول التسرب الجهوي غائبة تماما.. لسنا ندري هل أن هذا حصل نتيجة سهو فقط أو رغبة في إخفاء هذه المعطيات .. وكنا ننتظر أن نجد تفصيلا أدنى حول الترسب باعتبار الولاية والوسط (حضري –ريفي) وبما أمكن من معطيات حول الظروف العائلية العامة للتلاميذ المترسبين ..
المعطيات الوحيدة المتوفرة حول الانقطاع المدرسي حسب الولايات تعود إلى الوثيقة التي نشرتها وزارة التربية في مارس 2014 حول «مؤشرات المنظومة التربوية» ففي سنة 2012/ 2013 كانت نسبة الانقطاع المدرسي في التعليم الابتدائي %1 (%1.1 في سنة 2015/ 2016) ولكن هذه النسبة تنزل إلى %0.0 أي دون %0.05.
بالنسبة لبن عروس وأريانة وتصعد إلى %2.6 بالنسبة للقصرين أي أن مخاطر الانقطاع في القصرين اكثر من 50 مرة ممّا نجده في بن عروس وأريانة..
ودون أن تكون لدينا معطيات إحصائية شاملة ولكن عدة دراسات جزئية تثبت الرابط بين المستوى الاجتماعي وخاصة التعليمي للعائلة والانقطاع المدرسي ..
ولكن ثمة عامل آخر يميّز سوسيولوجيا الترسب وهو تعرض الذكور لها بنسبة ارفع من الإناث فعلى جملة المنقطعين في السنة الدراسية الماضية تمثل الإناث %40.7 فقط والتمايز الأوضح هو في المرحلة الإعدادية حيث لا تبلغ نسبة الفتيات من مجموع المنقطعين سوى %30.7 فقط..أي أن مرحلة المراهقة تمثل خطرا إضافيا بالنسبة للذكور أما في التعليم الثانوي فتكاد نسبة الإناث والذكور تكون متعادلة.
عدد الانقطاع الجملي في كل مراحل التعليم ينبغي أن يقارن أيضا بعدد الوافدين الجدد سنويا على المدرسة أي عدد التلاميذ الذين يسجلون لأول مرة في السنة الأولى من التعليم الابتدائي..
في هذه السنة التحق حوالي 179.500 تلميذة وتلميذ بالسنة أولى ابتدائي وبالنظر لعدد المنقطعين نقول بان نسبة حصول تلميذ جديد على شهادة الباكالوريا لا تتجاوز %50 في كل الحالات في حين تصل هذه النسب إلى أكثر من %90 في جلّ الاقتصاديات المتقدمة..
أردنا بكل هذه الأرقام أن نبيّن حجم الكارثة التي تعيشها بلادنا سنويا وكمّ القنابل الموقوتة التي نحن بصدد زرعها دون وعي منّا..لاشك أن كل التلاميذ ليسوا موهوبين بنفس الدرجة لاستيعاب العلوم واللغات ، أي المعارف الأساسية للمدرسة ولكن ما هو الجهد الذي بذلناه من أجل وضع حدّ لنزيف هذه الطاقات بتنويع مخارج التكوين؟
كيف نفسر مغادرة أكثر من 10.000 تلميذ سنويا للمدارس الابتدائية؟
تعتبر دول الاتحاد الأوروبي أن الانقطاع المبكر عن التعليم يهم التلاميذ الذين يغادرون المدرسة دون أن يتجاوزوا شهائد التعليم الثانوي السفلى (اي ما يعادل السنة الثانية أو الثالثة من التعليم الثانوي في تونس) هذا هو الانقطاع المبكر عندهم..أما عندنا فهو ينطلق من السنة الأولى ابتدائي ، رغم الجهد المبذول في هذا المستوى ،وتتواصل بعده رحلة العذاب هذه..
كثيرا ما تحدثنا في تونس عن ضرورة إعادة الاعتبار للتكوين المهني ولكن عندما ينقطع التلميذ عن مدارج الدراسة فهو عادة ما ينقطع عن مسارات التعلم والتكوين كلها ..
لا ندري لماذا نظل من الدول القلائل التي لا تدمج ما نسميه بالتكوين المهني ضمن المسار الدراسي كما كنا نفعل من قبل ولم لا يكون ربع أو ثلث أو حتى نصف الحاملين لشهادة الباكالوريا هم من صنف الباكالوريا المهنية أو الحرفية ولم لا نفتح أما المتفوقين منهم سبل التعليم العالي في التقنيات والمهن ؟..
نحن بحاجة الى ثورة كوبرنيكية نغيّر بها زاوية النظر : الانقطاع المدرسي ليس طبيعيا بل هو آفة إنسانية وأخلاقية واقتصادية ينبغي دحرها والقضاء عليها كليا ..ومن هنا ننطلق في التفكير لإيجاد الحلول حتى لا نلقي كل سنة أكثر من مائة ألف شابة وشاب في أتون المجتمع دون التكوين الفكري والعلمي والعملي الأدنى الذي يخول لهم الاندماج الاجتماعي. كفانا من الحماسة الموسمية لهذا الملف ولننكبّ بصفة جدية على إيجاد الحلول النهائية ..