بعد إصدار الأحكام الابتدائية فيما يعرف بقضية «التآمر»: ما عسانا أن نقول ؟!

بعد صدور الأحكام الابتدائية في ما يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة والتي وصلت إلى 66 سنة سجنا

وتجاوز معدلها العشرين سنة على الأربعين متهما وبعد حالة الصدمة والذهول التي اصابت العديدين لا من الأحكام فقط بل من كل حيثيات القضية.. بعد كل هذا ما عسانا أن نقول؟!

لقد علمنا أفلاطون انه امام الاحراج (l’aporie) اي الإشكال الذي لا حل له علينا أن نقوم بمنعرج كبير (un grand détour) عسانا نعود إلى الاحراج بطريقة جديدة تضيء بعض ما استشكل منه..

والأهم من ذلك أن المقاربة المسماة بالحيادية أو الموضوعية الجافة لا يمكنها أن تفي بالغرض فنحن نتحدث اولا ونهاية عن معاناة ومأساة مواطنين انهارت ثوابتهم الحياتية في لحظة واحدة رغم ما يشعرون به من فخر واعتزار.

أنا انتمي إلى جيل افاق بعض اطفاله - لأسباب عائلية - على وتيرة المحاكمات السياسية منذ محاكمة شباب يساري أواخر سنة 1966 على ما أذكر وكانت أحكاما بالسجن مع تأجيل التنفيذ وتم التجنيد القسري لهؤلاء الشباب في ثكنة بوفيشة وبدأت معاناة العائلات، والأمهات خاصة منهن الوالدة رحمها الله، في الاعداد للقفة لا فقط لابنها بل لجميع الشباب ولم يكن الاعسر انذاك هو هذا الإعداد - رغم أن المسألة لم تكن هينة بالمرة- بل إيجاد سيارة تنقل العائلة إلى بوفيشة.

وتواصلت معاناة العائلات والأمهات في المحاكمة الكبرى لمجموعة آفاق سنة 1968 والرحلة المضنية إلى برج الرومي وبعدها الأحكام الغيابية في محاكمات العامل التونسي ثم سجن الكاف.

ذكريات ما تنفك تراودني وأنا افكر في المعاناة الإنسانية لعائلات وأمهات وبنات وأبناء وزوجات وأزواج من نعرفهم ومن لا أذكر حتى مجرد اسمائهم وهم بين أهوال الزيارة والقفة والانتظار الطويل أمام أبواب السجون هذا دون الحديث عن المساجين أنفسهم فجلهم ليسوا من عداد الشباب بل من الكهول والشيوخ وأغلبهم لم يكن يتصور أن السجن سيصبح مقره ومستقره..

لست أدري هل أن التعود منذ الصغر على المحاكمات والسجون هو الذي جعلني شغوفا بمتابعة بقية المحاكمات السياسية - وما أكثرها في شبابنا - وكنا نتابع أدق أدق تفاصيلها بواسطة تغطية الصحف اليومية وخاصة «الصباح» وشقيقتها «le temps» وكنا وكأننا في بهو المحكمة في محاكمة حركة الوحدة الشعبية سنة 1976 حيث تنقل لنا ابتسامة القاضي وضحك الحاضرين ودفاع المتهمين عن أنفسهم بكل التفاصيل ومرافعات المحامين والتي كانت تمتد لساعات طوال وأحيانا تتجاوز اليوم دون انقطاع..

وبعد ذلك محاكمات النقابيين بدءا بالمحاكمة الكبرى سنة 1978 ثم ما تلاها في الثمانينات من محاكمات الاتجاه الإسلامي سنة 1981 و1987 وما بين ذلك من محاكمات لمجموعات يسارية أو قومية ومحاكمة مجموعة قفصة سنة 1980 وبعض الشباب المورط في أحداث العنف في انتفاضة الخبز سنة 1984.

كانت حينها الجرائد اليومية بما فيها جريدتي الحزب الحاكم «العمل» و«l'action» وجريدة «la presse» الحكومية تنقل مع جريدتي دار الصباح أهم ما يحصل داخل قاعة المحكمة بتحيز ولاشك ولكنها تنقل الأحداث.. أما الصباح و «le temps» فلا أذكر أنهما تحيزتا ضد المتهمين في الأغلب الأعم وكانت هذه التغطيات تحظى باهتمام واسع لا من النخب فقط بل من عموم المتعلمين وكنا نرى فيها مادة طريفة وغير عادية دون أن نعي دوما حجم المعاناة والمأساة التي يعيشها المساجين وعائلاتهم..

لم نكن آنذاك نعيش في ديمقراطية ولا انفتاح اعلامي والقضاء كان واقعا تحت همينة السلطة السياسة، ولكن كانت هنالك فتحة ما ساهمت في بناء وعي الشباب الذي كانت تتصارع على تأطيره جل التيارات الفكرية والسياسية انذاك..

في هذا المستوى نحن لم نتأخر عما تحقق في عشرية الانتقال الديمقراطي فقط بل حتى عما كان يحصل في سبعينات وثمانينات القرن الماضي..

عندما أنظر في قائمة المحاكمين الأربعين في قضية «التآمر» أرى فيها العديد من شباب تلك العقود بعضهم عرفتهم قبل الجامعة كالأخت و َالصديقة العزيزة بشرى بلحاج حميدة النسوية والحقوقية والديمقراطية حد النخاع وأكاد أقول منذ نعومة اظافرها وبعضهم عرفتهم في الجامعة لأننا درسنا في نفس الكلية كعصام الشابي.. كان كل شي، يكاد يفرق بيننا، لكن تجمعنا معرفتنا منذ الطفولة بأجواء المحاكمات والسجون بفعل نشاط شقيقينا الأكبرين..

عصام كان فصيحا وزعيما منذ الصغر لا يمكن لمن عرفه عن كثب الا أن يحترمه..

بعضهم الاخر عرفته في الثمانينات عندما اشتغلت بالصحافة من تيارات فكرية وسياسية شتى كنورالدين البحيري المفاوض الأبرز للاسلاميين وأحمد نجيب الشابي القادم من المهجر المفروض عليه والمؤسس للتجمع الاشتراكي التقدمي والذي سيصبح الحزب الديمقراطي والذي قاد فيما بعد المعارضة الديمقراطية لنظام بن علي.. نجيب زعيم مثقف يعشق بلاده وقل أن جادت بمثله تونس خلال هذه العقود الأخيرة ولعل مشكلته الوحيدة انه كان دائما سابقا لعصره والنخبة السياسية كذلك فتمت شيطنته من قوى شتى..

كما عرفت الأزهر العكرمي المحامي صاحب المقالات السياسية الرائقة في «مواطنون» جريدة التكتل والالمعي جوهر بن مبارك المتفوق دراسيا والمثقف والمسيس بلا حدود والذي تم انتخابه منذ سنته الأولى بكلية الحقوق في قيادة الاتحاد العام لطلبة تونس في مؤتمره الثامن عشر الخارق للعادة.

وعرفت في مجلة «المغرب» في أواخر الثمانينات مناضلا يساريا شهما ذا قيم أخلاقية عالية العياشي الهمامي ونورالدين بوطار منذ أن تخرج من معهد الصحافة وربطت بيننا زمالة وصداقة لم تنفك عراها إلى حد اليوم..

وعرفت جزءا هاما من هذه القائمة بعد الثورة بعضهم - من سياسيين وحقوقيين- بصفة مباشرة وكنا نختلف ونأتلف والبعض الآخر بصفة غير مباشرة، لا أستطيع ذكرهم كلهم حتى لا اغمط حق أحد ولكن فيهم كفاءات ونساء ورجال مخلصون وفيهم ما دون ذلك وفيهم من لا أعرفه ولا يجوز لي تقييمه باي حال من الأحوال..

سأذكر فقط من تعرفت عليهم جيدا - إلى حد ما - وجدت فيهم من عبر عن ثراء المشهد بعد الثورة واثراه، اذكر دون ترتيب او وصف شيماء عيسى وخيام التركي وغازي الشواشي ورضا بلحاج وعبد الحميد الجلاصي ومحمد الحامدي ورياض الشعيبي ومصطفى كمال النابلي وكمال الجندوبي َونورالدين بن تيشة.

ومن لم اذكرهم لا انتقص منهم شيئا ولكنني لم اختبرهم بصفة شخصية مباشرة ومن ذكرتهم لا يعني اني متفق معهم ولكن الاتفاق والاختلاف لا دخل له هنا في محاكمة من المفترض فيها محاسبة الناس على الأفعال فقط لا على الأفكار.

كنا ننتظر ان يسمح لكل هؤلاء بمحاكمة علنية شفافة عادلة يدافعون فيها عن أنفسهم ونرى فيها أيضا حجج الادانة إن وجدت ليحكم لا القضاء فقط ولكن أيضا الرأي العام على مدى وجاهتها وصلابتها.

كنا نتمنى أن نضمن بصفة جدية حقوق الدفاع لا ليتمكن المحالون من الدفاع عن أنفسهم فقط ولكن أيضا لضمان حقوق الدفاع عن أنفسهم، ولكن أيضا لأن ضمان حقوق الدفاع هي من صميم قواعد العيش المشترك..

قيل لنا بأن المحاكمة لا تشمل الأفكار بل الأفعال.. ولكن لم نر الأفعال الحقيقة باستثناء شهادات مجهولة المصدر يستحيل عقلا حصول علمها - بالمعنى الدقيق - بكل ما نقلت ولم نر تمحيصا لهذه الاتهامات في ما نعلم.. نحن نعلم أفكار العديد من هؤلاء وخبرناهم وخبرتهم الساحة السياسية والحقوقية والاعلامية على مدى هذه العقود..

رأينا فيهم افكارا ومواقف لأجيال وتيارات من السياسيين والمثقفين والحقوقيين

بعد المرارة والألم في كل مرة اتذكر معاناة وعذابات المساجين وعائلاتهم ومن حرموا من بلدهم ومن قد يحرمون من حريتهم لو أقر الحكم الاستثنائي تمشي الدائرة الإبتدائية..بعد كل هذا ينتابني حزن عميق.. فأنا أرى بنات وأبناء جيلي والأجيال التالية يحاكمون وكأنها محاكمة لنا جميعا نحن الذين حلمنا منذ الصغر ببلد أجمل وأعدل.. وكأنها محاكمة للسياسة في معناها النبيل : الانخراط في الشأن العام والإيمان بأفكار والدفاع عنها بغض النظر عن طبيعتها المطلوب فقط ألا تخالف القانون وألا تدعو للاحزاب وألا تضيق بالرأي المختلف..

ايام حزينة نعيشها اليوم

ويبقى الامل معقودا دوما على صحوة الضمير..

يقال دوما أن الثورات تأكل أبناءها..

تونس بلد صغير مسالم ولا نريد له أن يلتهم أفضل ما أنجب.

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115