عالم خطر يزداد خطرا: الجماعة والدولة والحرب

الكائن الحي، أيا كانت نسبة نموه وتعقدّه، يقضي كامل حياته بين لحظتي

الفرصة (وجود جدول ماء او ظهور فريسة ..)والخطر (جفاف او فيضانات أو المطاردة من قبل حيوان مفترس ..)

والإنسان ككائن حي يعيش بدوره بين هاتين اللحظتين حتى وإن كان وجوده الجماعي يقلل في احيان عدّة من وعيه بهما .

عند الكائن الحي وبصفة غريزية درء الخطر أهم من اقتناص الفرصة ونجد أثرا لهذا في تراثنا الفقهي القديم في قاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» ولكن الانسان اضافة على حيوانياته هو ايضا كائن ثقافي يتحكم فيه –بنسب – مخيال جماعي قائم على جملة من المعتقدات والتقاليد والأفكار المسبقة حول الناس والأشياء وهذا كله يدفعه احيانا الى تضخيم مبالغ فيه للخطر او الى الاستهانة به ومن ثمة كل السلوكيات الخطرة التي نجدها في كامل ارجاء الدنيا .

الانسان كائن حي بالمعنى الاصلي للكلمة ، لكن الجماعة البشرية لا تملك حياة وغرائز بالمعنى الطبيعي للكلمة ولكنها تملك من العناصر المكونة للحياة الكثير وبالتالي فهي كائن حي بالمعنى الثاني او الرمزي للكلمة .

الجماعة البشرية تجد نفسها ايضا امام ثنائية الفرصة والخطر ولكن تمثلها لهما لا يخضع الى ردة فعل بيولوجية بل تتوسطها الثقافة بالمعنى الانطروبولوجي للكلمة اي البناء الرمزي وكل ما يعطي معنى للعلاقات الاجتماعية المركبة او البسيطة.

واللافت في حياة الجماعات البشرية ان فترات الاستقرار تؤثر كثيرا على المنبهات الجماعية للشعور بالخطر، فالجماعة المستقرة تفقد تدريجيا وعيها بارتجاجية الزمن وتقلبه وتحولاته العنيفة وعندما يفاجئها خطر غير اعتيادي تفقد توازنها بسرعة ولا تقدر على مواجهته بالطريقة المطلوبة في ابانه وهذا ما حصل لشعوب كثيرة على امتداد التاريخ عندما داهمتها جيوش كاسرة او كوارث طبيعية استثنائية ..

لقد حصل تحول جوهري في كل الجماعات البشرية عندما وصلت درجة تعقيدها وتقسيم العمل داخلها وخلق الفائض الذي يسمح بتمويل جملة من الوظائف غير المنتجة (كالعسكر المحترف والبيروقراطيين والكتبة والحراس ..) عندها نشأت الدولة ككائن محايث ومفارق في نفس الوقت وفق عقد غير مكتوب : الامن مقابل الطاعة المطلقة ودفع الاتاوات على مختلف الانشطة الفلاحية والحرفية بما يسمح بتمويل كل هذه الوظائف غير المنتجة ولكنها ضرورية لقيام الدولة واستمرارها .

ويبدو ان المجموعة البشرية لم تتخل فقط عن حريتها لفائدة الدولة/التنين بل وايضا عن وعيها الجماعي بالمخاطر الخارجية وقنعت فقط بالتوقي من المخاطر العادية التي تعترض حياتها اليومية .

لقد اصبح التصرف في المخاطر الجماعية اختصاصا حصريا للدولة وهنا شهدت البشرية في الغالبية الساحقة من اصقاع الدنيا سياسة مقاومة الخطر الداخلي بتصديره الى الخارج ..

فبقدر ما تتوسع الرقعة الجغرافية للدولة وتمتد تكثر خيراتها وقدرتها على تمويل الجند والجباة والكتبة، ويمكن ان نقول ان جل الحروب في العالم من بدايات نشأة الدولة الى الحروب الاستعمارية مرورا بالحروب الدينية والعرقية وغيرها كانت كلها قائمة على احداث الخطر خارج حدودها باستمرار تجنبا لحصوله داخلها .

العولمة لم تنشأ بعد انهيار جدار برلين او مع الحروب الاستعمارية الاوروبية حتى وإن كانت قد احدثت فيها منعرجا حاسما.. لقد نشأت العولمة حسب بعض الدراسات التاريخية منذ اكثر من الف سنة وتحديدا في منعرج الالفية الاولى بعد الميلاد عندما تواجدت في نفس الفترة وعلى امتداد قرون عدة امبراطوريات كانت تهيمن على اجزاء هامة من الارض المعلومة انذاك: الخلافة العباسية والإمبراطورية البيزنطية وسط العالم المعلوم وممالك الافرنجية غربه والإمبراطورية الصينية شرقه وتطور فنون الملاحة والنقل البري بما سمح بالتجارة بين مختلف مراكز الحضارات هذه وتبادل السلع والأفكار وتطور حركة الترجمة (خاصة عند المسلمين) واتساع التأليف وتجوال الكتب مع التجار خاصة مع تعميم صناعة الورق المكتشف في الصين في العقود او القرون الاولى للميلاد ثم «افتكاك» المسلمين سر هذه الصناعة في اواسط القرن الثامن للميلاد وهكذا اصبحت المادة الاولية للكتاب المخطوط اقل كلفة بكثير من الوسائط السابقة كجلود الحيوانات .

ما يهمنا هنا منذ البواكير الاولى لهذه العولمة التي جدت منذ حوالي الف سنة الى العولمة الناجمة عن الحركة الاستعمارية الاوروبية بداية من احتلال / اكتشاف «العالم الجديد» (امريكا الجنوبية والوسطى) سنة 1492 من قبل كريستوف كولومب والخطر ينتقل من المركز الى الاطراف بواسطة الجيوش بداية ثم الاحتلال او الاستيطان واستعمال الاراضي والسكان لاستخراج الثروات (الذهب والمعادن النفيسة) او لإنتاج الغذاء لمراكز الامبراطوريات الاستعمارية مع توطين جزء من مواطنيها او من مواطني الدول الاوروبية الفقيرة في اصقاع العالم الممتد والذي سيصبح كله، تقريبا، خاضعا لأوروبا في نهايات القرن التاسع عشر.

ما يهمنا في كل هذا ان منطق الدولة التوسعية يتقاطع رمزيا مع منطق القبيلة : السلم في الداخل والحرب في الخارج، ولكن السلم الداخلي يمثل خطرا على الدولة كما اسلفنا لأنه يقلص من دور منبهات الخطر، لذلك سعت كل هذه الدول التوسعية الى خلق عدو داخلي / خارجي حتى تبقي على درجة علية من الانتباه والحذر داخل ترابها .

ومن مفارقات الزمن ان الشعوب التي خضعت للاستعمار ولفترات متفاوتة خفت بعد ذلك شعورها بالخطر او تحول في بعض التجارب الى ايديولوجية للدولة تبرر بها استبدادها بتعلة محاربتها للأخطار الخارجية، وهذا حال جلّ الدول العربية، ولكن لم نشهد في بلداننا تطورا لوعي علمي وجدي بنوعية المخاطر التي يشهدها العالم وخاصة بتوسعها وتشابكها، واقتصر النقاش العمومي في جلّ هذه الدول – متى امكن له ان يوجد – حول أدلجة المخاطر داخليا وخارجيا لغايات سلطوية محضة او الانغماس الكلي في المشاكل المحلية والحال اننا نعيش في عالم خَطِر على كل المستويات ونحن اليوم في مرحلة تتفاقم فيها هذه المخاطر وتتعقد وتتضافر.

(يتبع )

II – في عولمة المخاطر وفي الوعي بها

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115