ومدرسة أبي حنيفة بالعراق (مدرسة أهل الرّأي). وقد تميّزت كلّ مدرسة منهما بطرق مخصوصة في استنباط الأحكام من أدلّتها الشّرعيّة. فقد تميّزت المدرسة الحنفيّة بالتّوسع في استعمال الرّأي والقياس والاستحسان.
وتميّزت المدرسة المالكيّة بوفرة الأحاديث النّبويّة واعتماد قاعدة المصالح المرسلة وعمل أهل المدينة. وقد جذبت المدرستان نخبة من الشّباب التّونسي. فارتحلوا إلى الشّرق ليتلقّوا الدّروس عن مالك وأصحابه بالمدينة، وعن أبي حنيفة وأصحابه بالعراق، وأخذوا عنهم أصول الدّين والفقه وأساليب القياس واستنباط الأحكام فيما يعرض من المشكلات.ويعتبر عبد الله بن فرّوخ (176هـ/792م) حامل المذهب الحنفي إلى إفريقيّة. فهو الذّي عاصر علي بن زياد حامل لواء المذهب المالكي. لقد اجتمع ابن فروّخ بأبي حنيفة وصحبه مدّة طويلة. وكتب عنه مسائل كثيرة. كان يميل إلى النّظر والاستدلال. ويُروى أنّه ناظر يوما زفر بن هذيل (158هـ/775م) أحد أصحاب أبي حنيفة فازدراه زفر لهيئته المغربيّة. فلم يزل يُناظره حتّى علا ابن فرّوخ عليه وأفحمه بالحجّة والدّليل. فأنكر أبو حنيفة على زفر وعاتبه.
أما الفقيه الحنفي التّونسي فهو أسد بن الفرات (213هـ/828م) الذّي ارتحل بعد أن سمع مالكا بالمدينة، إلى العراق ولقي جماعة من أتباع أبي حنيفة وأخذ عنهم، ثمّ رجع أسد بعد وفاة مالك إلى مصر فأخذ عن أصحاب مالك كابن القاسم (191هـ/806م) وعبد الله بن وهب (183هـ/799م). وأشهب بن عبد العزيز (204هـ/819م). وجمع المسائل التّي تلقّاها في كتاب الأسديّة. ثمّ رجع إلى القيروان. وكان قد اجتمع لديه كتب مختلفة من المدرستين المالكيّة والحنفيّة. فتولّى تدريسها وقد كان كثيرا ما يثار الجدل والنّقاش حول الآراء الموجودة بها. ثمّ جاء سحنون. فهذّبها. وحذف منها المسائل الحنفيّة في مدوّنته « أنظر القاضي عياض: ترتيب المدارك»، 3 / 298.
ومن تلامذة أسد بن الفرات سليمان بن عمران (270هـ/786م) الذّي صحب شيخه إلى أن استشهد بصقليّة. لقد اختّص سليمان بدراسة الفقه الحنفي وتولّى القضاء زمن سحنون وحكم بمذهبه. ومن أصحاب أسد الحنفيّين أبو سليمان معمر بن منصور. كان فقيها قيروانيّا على عهد العراقيّين وهيثم بن سليمان بن حمدون (275هـ/888م) الذي كان فقيها على مذهب أبي حنيفة ومحمد بن عبد الله بن عبدوس (260هـ/874م) الذي قال فيه محمد بن حارث الخشني: «كان حافظا لمذهب أبي حنيفة موثّقا، كاتبا للّشروط والوثائق، وكان ذا هيبة جميلة عالية، ترك كتابا أثنى عليه ابن حزم وقد اعترض فيه على بعض آراء الشّافعي» طبقات علماء إفريقيّة، ص193
يتبع