وقد أتاه رجلٌ، فقال: يَا رسولَ الله، كَيف أقول حين أسأل ربِّي؟
قَال : قُل «اللهمَّ، اغْفر لي وارحمني وعَافِنِي وارزقني، فإنَّ هَؤلاء تَجمع لكَ دُنيَاكَ وآخرَتَكَ».
وأوَّلُ ما يَلفت الناظرَ في مَقام هذا الحديث الشَّريف، هو الأدبُ الجمُّ الذي تحلّى به هذا الصحابيّ الجليل مع الله ورسوله. فلم يرد أن يدعوَ اللهَ كمَا اتَّفَق وبما ورد على خاطره، وإن كان ذلك جائزًا، بل أَرَاد أن يدعوه بما يُعلّمه الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، إياهُ لينال بركة التعليم وشرفه، ولِيكونَ مُتّبِعًا للسنة، محتاطا في دينه وكلماته، مُتوقِّفًا في ضَراعته وابتهالاته، لا يَصدرُ عَنه إلا ما كانَ مُوافِقًا لتعليم الله.
وأمَّا أدبه مع الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، فطلبه إياه كيفيةَ الدَّعَاء، واعتباره لَه معلِّمًا ومُرشِدًا، ولقد فازَ هذا السائلُ في موقفه موقف المتعلّم المتواضع، بين يدي السيد الأعظم، وهو المقام الذي يَنبغي أنْ يَقفه كلّ مسلم اليومَ: الاستمداد من العلم النبوي ما به يتقرّب إلى الله.
وكان الجواب النبوي في الدرجة العليا من البَيَان ومطابقة الحال، إذ يَبدو من قرائن الحديث ومَقامه أنَّ السائل من حَديثي العَهد بالإسلام، ولذلكَ جَمع له طبيبُ الأرواح والمعلّم الأكبر، صلّى الله عليه وسلّم، في جملة واحدةٍ ما به يفوز في الدنيا والآخرة، على ترتيب بَديع ونظم عجيب: فأول مراتب الفوز: الدعاء بالمغفرة لما سبقَ من الذنوب وما كان منها وما سيكون، لأنَّ غفرانَها دليلٌ على صفح الله وعفوه وذلك أوّل درجات التقريب. وطلب الغفران مقابلٌ لاسم الله الغَفُور، الذي وَرَدَ في القرآن 91 مرّة وباسمه الغفَّار الوارد 5 مرات، مثلما جاء في سورة طه: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى (الآية 82).
فَكأنَّما النبيَّ، صلّى الله عليه وسلّم، يعلّمُ هذا الصحابيَّ الجليلَ، ومن جاء بعده من الأمة، عظمة اسم الغفور جماله، لأنَّ ظاهرَ الحديث عامٌ، ليس في سياقه ما يدلّ على تخصيصه، وحق على كل مؤمن أن ينادي الله بأعز أسمائه وصفاته والغفور من أعلاها وأشرفها، وكلها عالٍ وشريف.
وبعد ذلك، يعلِّمُه النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أن يطلب الرحمة، في قوله: «وارحمني»، وقد ورد مصطلح الرحمة في القرآن 114 مرة، ويعني عموما تجلي الله على عباده باللطف والعناية والغفران، وقوله «ارحمني» تشمل اللطف الرباني في الدنيا بتخفيف القضاء وتلطيفه قبل نزوله وأثناءه وبعده، وتشمله أيضا في الآخرة بغفران الذنوب والإنجاء من النار والوقاية من غضب الله.
وبعد ذلك طلب الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، من الصحابي أن يسألَ اللهَ المعافاة، وهذا اللفظ يعني الصفح والسلامة، كما ورد فِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ، رضي الله عنه،:«سَلُوا اللهَ العَفْو وَالْعَافِيَةَ» رواه الترمذي، فأَما العَفْوُ: فَهُوَ مَحْو اللَّهِ تَعَالَى ذُنوبَ عَبْدِهِ عَنْهُ، وأَما الْعَافِيَةُ: فَهُوَ أَن يُعافيَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سُقْمٍ أَو بَلِيَّةٍ وَهِيَ الصِّحَّةُ ضدُّ المَرَض. يُقَالُ: عافاهُ اللَّهُ وأَعْفَاه أَي وهَب لَهُ الْعَافِيَةَ مِنَ العِلَل والبَلايا. وأَما المُعافاةُ: فأَنْ يُعافِيَكَ اللهُ مِنَ النَّاسِ ويُعافِيَهم منكَ، أي: يُغْنيك عَنْهُمْ وَيُغْنِيَهِمْ عنك ويصرف أَذاهم عَنْكَ وأَذاك عَنْهُمْ، وَقِيلَ: هِيَ مُفاعَلَة مِنَ العفوِ، وَهُوَ أَن يَعْفُوَ عَنِ النَّاسِ ويَعْفُوا هُمْ عَنْه»ُ. وهذا ما ذكره العلامة التونسي أبن منظور القفصي في لسان العرب.
يتبع