والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون (النور:41) والصحيح من أقوال أهل العلم أن تسبيح هذه الكائنات تسبيح حقيقي، حتى إنه في بعض الأحوال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون هذا التسبيح، فقد روى البخاري في «صحيحه» عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: «ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل».
وإذا كان تسبيح الطعام الذي سمعه الصحابة رضي الله عنهم هو حالة خاصة وفي زمن خاص، فإن الله سبحانه قد أخبرنا عن تسبيح جميع الكائنات في نظامها العام، وأنه تسبيح بلغة خاصة، كما قال سبحانه: ولكن لا تفقهون تسبيحهم (الإسراء:44).
فالله سبحانه وتعالى ينطق الجماد بأصوات يفهمها من يفهمها من الآدميين، كما قال تعالى عن داود عليه السلام يا جبال أوبي معه والطير (سبأ:10) وقال تعالى إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (ص:18) والحصى قد سبح في كف النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن مسعود»كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل» وكان أبو الدرداء، وسلمان الفارسي يسمعان تسبيح القِدْر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم حجراً بمكة، كان يسلم علي قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن» رواه مسلم، وهذا باب واسع».
فإذا استشعر المؤمن الذي يتعامل مع أخبار القرآن كأنما يشاهدها رأي العين، إذا استشعر هذا المشهد، وأخذ يُجيل عينه في الكون من حوله، فيقلب وجهه في السماء، وينظر في فجاج الأرض، ويمسك الأشجار بيديه، ويتأمل الطير فوقه، وهن صافات ويقبضن، ويستحضر تلك الكائنات المدهشة التي تعيش قيعان المحيطات، ثم يستعيد كلام الله عن أن هذه الكائنات كلها تُسبح لله، كل قد علم صلاته وتسبيحه، ولكن لا نفقه تسبيحهم، فإنه لا يكاد يطيق المهابة والإحساس بالعظمة الإلهية التي تتوارد على قلبه، وتكاد تعتقل لسانه.
فإذا جمع المؤمن في قلبه هذا المشهد السابق في تسبيح الكائنات لله، ثم أضاف إليه أن الله استفتح بالتسبيح سبع سور من القرآن. وإذا أضاف المؤمن إلى ذلك أن الصلاة التي هي أعظم شعائر الإسلام، جعل الله في ركوعها وسجودها التسبيح. وإذا أضاف المؤمن إلى ذلك تسابيح الأنبياء، كقول موسى عليه السلام في بيان وظيفة نبوته واجعل لي وزيرا من أهلي* هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري * كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا (طه:29 - 34) فطلب موسى مساعداً له في رسالته، وجعل وظيفة هذه الرسالة أن يسبحا لله كثيراً، ويذكراه كثيراً.