ونحن ننتظر تشكيل حكومة جديدة: نحو سياسات الحياة بدل السياسات الكلاسيكية

حكومة جديدة تتشكل على يد إداري تونسي غير متحزب وهو جدي وعلى الأرجح نزيه فهل تكفي هذه الخاصيات مجتمعة

لان تكون البذرة الأولى لسلطة تنفيذية تحمل حلما تونسيا بحياة جديدة وكريمة ومستدامة …

قد يتساءل البعض : لماذا تهتم الايكولوجيا بالسياسة ? أجيب انه وببساطة لان البيئة اليوم ليست مجرد أحلام جميلة بل هي وأكثر من أي وقت مضى الأفكار العملية الجديدة التي يمكن أن تغير نوعية حياة الشعوب وخاصة الصغيرة مثل بلادنا ولكن شريطة أن تتوفر الإرادة السياسية .

ولان الإرادة السياسية لا يمكن أن تتوفر إلا إذا كان الحاكمون الجدد على علم بأمور غير كلاسيكية مثل حقيقة التغيرات المناخية والتلوث العارم والاحتجاجات الاجتماعية التي لها علاقة وثيقة بالسياسات أللاقتصادية المتبعة فان هذه الصفحات دأبت ومنذ سنوات ومع كل تحوير سياسي على التفاعل وإبداء الرأي والأمل بقدوم وزراء جدد لهم وعي بان خيارات المستقبل هي بالضرورة مختلفة عن خيارات الماضي لان تونس تعيش مثل بقية دول العالم معطيات طبيعية واجتماعية جديدة لا يمكن ان يكون التعامل معها بمجرد تطبيق الوصفة التقليدية « تهيئة الظروف الملائمة لقدوم المستثمر الأجنبي».

إن المعطيات المناخية والاجتماعية تغيرت جذريا في العشريات الأخيرة ولكن القواعد الاقتصادية الكلاسيكية لم تتغير وبقيت تؤمن بحل وحيد رغم أن الزمن اثبت أن هذه السياسة الوحيدة خلفت التلوث وتغير المناخ والأمراض والبطالة والاحتجاجات لان هذه السياسة التي تبنيناها بعد الاستقلال تعطي الأولوية للربح المادي لصاحب العمل على حساب العامل والمحيط الطبيعي .

في الغرب هناك اليوم وعي جديد ما فتئ يتعاظم بضرورة الانتقال الايكولوجي وتجسد في نتائج الانتخابات البلدية الفرنسية الأخيرة حيث فاز الايكولوجيون برئاسة بلديات كبيرة مثل بلدية مرسيليا كذلك في انتخابات البرلمان الأوروبي حيث احتل حزب الخضر المرتبة الثالثة مع العلم انه لو تحالف حزب الخضر مع احزاب اليسار الرئيسية التي تتقارب كثيرا في الأفكار وخاصة حول ضرورة الانتقال الايكولوجي لأصبحوا القوة السياسية الأولى في فرنسا .

هناك اليوم علماء يقولون ان فيروس «كورونا» الذي أعطى للبشرية دروسا كثيرة أهمها ان الاقتصاد العالمي «هش جدا» نشأ في الصين لان هذا البلد الذي هو في حجم القارة هو الأكثر تأثيرا في المحيط الطبيعي لأنه تبنى سياسة ليبرالية متوحشة أملا في اللحاق بالولايات المتحدة الأمريكية .
لقد أظهرت صورة معبرة نشرت قبل مدة في الصفحة الأولى لصحيفة «نيوروك تايمز» عشرات الجرافات العملاقة وهي تحول منطقة جبلية وعرة إلى منطقة منبسطة قصد تحويلها إلى مناطق سكنية .
ولأن لكل فعل ردة فعل تماثله في القوة فان لمثل هذه التصرفات العنيفة تجاه الطبيعة ردات فعل يكون الإنسان أول ضحاياها.

يقول المختصون إن آثار التغيرات المناخية والتلوث العارم هي اليوم على رأس هذه الردات العنيفة ويصنفون كذلك «وباء كورونا» كإحدى الردات المفاجئة والغير متوقعة التي يمكن أن يليها ما هو أسوا لا قدر الله.

إننا نؤمن أن كل إنسان يريد أن يحمل أمانة رسم السياسات الاقتصادية العاجلة والآجلة لأي بلد أن يكون له اطلاع بهذه الحقائق التي يمكن توصيفها بـ«حقائق العصر» بامتياز . يبدو السيد المكلف بتشكيل الحكومة هذه الأيام مشغولا بالأمور العاجلة جدا ومنها مشاكل المالية العمومية وحجم الاقتراض الخارجي وانعكاسات أثار جائحة كورونا على الاقتصاد الوطني وهو محق في ذلك ولكن عليه أن يضع في حساباته أن المشاكل العاجلة هي أيضا احتجاجات الكامور بتطاوين والحوض المنجمي بولاية قفصة وهي أمثلة لمشاكل جهوية فشلت الحكومات المتعاقبة في إيجاد حلول جذرية لها لان السياسات العمومية السابقة بقيت كلاسيكية وتفتقد إلى أشياء ثمينة مثل التأقلم مع الجغرافيا والتاريخ فالتنمية في ولايات الجنوب لا يمكن

أن تكون متطابقة مع نظيرتها في ولايات الشمال كما أن الطاقة في عصر التغيرات المناخية هي بالضرورة متجددة وليست احفورية ولذلك فان فكرة بسيطة وجريئة واحدة يمكن ان تحد وبشكل كبير من مشكلة البطالة في هذين الولايتين ويمكن أن تتمثل مثلا في
إقرار آليات قانونية وتقنية لتمكين الشباب من إنتاج الطاقات المتجددة مباشرة في شكل تعاونيات صغيرة وفي إطار مشاريع اجتماعية وتضامنية وهذا سيفتح المجال امام حركية اقتصادية جديدة ومستدامة يمكن ان تتوسع لتشمل صنع وصيانة اللوحات الشمسية .

إن تفعيل قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي صادق عليه مجلس نواب الشعب مؤخرا يمكن ان يكون حلا لمشاكل تنموية محلية وجهوية قديمة ومتعفنة عجزت السياسات الاقتصادية الكلاسيكية على إيجاد حلول لها .

ولهذا فان السيد رئيس الحكومة مدعو إلى فتح باب ما سأسميه باب السياسات الاقتصادية البديلة التي هي سياسات محلية ومستدامة وغير كلاسيكية وتقطع مع منطق الربح اللامحدود لرأس المال وتعطي الأولوية لشباب المناطق الداخلية .

ولإعطاء مثال عملي آخر يمكن للدولة أن تقوم بتجربة كراء بعض من الأراضي التابعة لها في إطار إعادة الاعتبار إلى الضيعة العائلية الصغيرة والتي لا تتجاوز مساحتها ثلاث هكتارات والتي يمكن أن تحتوي على إقامة سياحية صغيرة في إطار فلاحة بيولوجية سياحية مندمجة تلعب فيها وزارتا الفلاحة والسياحة دور المرشد والمراقب .
كما أن الدولة مدعوة إلى العمل على صياغة علاقة جديدة بين أجيال المستقبل والحرف اليدوية التي فقدت وجودها في التعليم منذ إقرار نظام التعليم الأساسي الذي أعطى الأولوية لتعليم نظري متساو بالنسبة لكل مستويات التلاميذ وهو ما ساهم في خلق أجيال كرهت التعليم وانقطعت دون تلقي أي تكوين مهني.

في نظم التعليم المتقدمة وخاصة في الدول الاسكندنافية فان التكوين اليدوي الحرفي مثل الخياطة والطبخ حاضر في صميم التكوين الأساسي للتلميذ بموازاة التعليم النظري .

إن مجال التنمية المستدامة هو مجال جديد في العالم و يمس كل مجالات الحياة ويمكن وصفه ب»الموضة الجديدة» وكل دول العالم بدأت تدخل جرعات منه الى اقتصادها لان هناك قوى داخلية وهم أساسا مفكرون وايكولوجيون يدفعون شيئا فشيئا الى تبني نمط جديد من الحياة .
إن تونس البلد المتوسطي الذي كان الايطاليون وكثير من الأوروبيون يلجؤون إليه من أجل العمل والاستقرار قادر على أن يصبح الملاذ الوحيد لابناءه لو توفر الوعي بطبيعة المرحلة التي نمر بها ومتطلباتها من جهة والإرادة السياسية من ناحية أخرى.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115