لجنة المالية تسقط الفصل 50 من قانون المالية 2026 تحديات تقنية وثغرات إدارية تنسف فعالية الضريبة على الثروة

أعاد مشروع قانون المالية لسنة 2026 النقاش الجبائي

في تونس إلى صدارة المشهد حيث أثار مقترح الفصل 50 من مشروع قانون المالية، المتعلق بالضريبة على الثروة ،جدلا واسع بين أعضاء مجلس نواب الشعب وتباينت الآراء حوله بين مؤيد له ورافض ليستقر النقاش على إسقاطه بالكامل من قبل لجنة المالية ، بعد تصويت 10 نواب ضدّ مقابل 3 نواب مع، رغم دفاع ممثلو الوزارة عن مبررات الفصل معتبرين انه جاء لمزيد تدعيم العدالة الجبائية بين الأفراد، و دعم المجهود التضامني لتمويل ميزانية الدولة في إطار تكريس العدالة الجبائية.

ورغم أن هذه الخطوة تبدو، من خلال عنوانها، سعياً نحو عدالة جبائية أشمل، فإنّ مضمونها يفتح الباب أمام أسئلة عميقة حول القدرة الفعلية للدولة على تنفيذها في سياق اقتصادي وإداري معقّد.

كان الفصل 23 من المرسوم عدد 79 لسنة 2022 المتعلق بالضريبة على الثروة العقارية يقتصر على فرض ضريبة على العقارات التي تفوق قيمتها الجملية ثلاثة ملايين دينار، وهو وعاء ضيّق حدّ من نجاعتها ومردوديتها، دفع المشرع إلى التوسع لتشمل الضريبة المقترحة جميع أصناف المنقولات، والأصول التجارية، بالإضافة إلى الودائع البنكية والأوراق المالية ورؤوس الأموال المنقولة ، والأملاك الراجعة ملكيتها للأبناء القصر.
بهذا التوسّع، تحوّلت الضريبة من أداة تستهدف الأملاك العقارية إلى ضريبة تستهدف كامل الثروة لتمسّ مختلف عناصرها

ملاحقة الثروة أينما وجدت

حدّد الفصل 50 الجديد من مشروع القانون نسبة الضريبة على الثروةب0.5% توظف على الأملاك والمنقولات التي تبلغ قيمتها 3مليون دينار ولا تتجاوز 5 مليون دينار لترتفع بعد ذلك إلى 1% تحتسب على الثروة التي تفوق 5 مليون دينار، ورغم أن هذه النسب تبدو متواضعة مقارنة بما يُفرض في بعض الدول ورغم أن هذه التوسعة تعكس رغبة واضحة لدى الدولة في ملاحقة الثروة أينما وجدت، فإنها في الوقت ذاته تزيد من تعقيد مهمتها في تقييم العقارات والممتلكات وفي مراقبتها، وتجعل مراقبة الأداءات في مواجهة مباشرة مع تحديات تقنية وهيكلية لم تُعالج بعد بشكل فعلي.
في الواقع فإن هذه النسب مهما بلغت من عدالة نظرياً، فإنها ستظل بلا معنى إذا ظلت الإدارة الجبائية عاجزة عن تحديد الثروة الحقيقية و منع التحايل الضريبي ففعالية الضريبة ليست في نسبها، بل في قدرتها على الوصول إلى الثروة الحقيقية دون تمييز أو انتقائية.

الإعفاءات ضرورة مالية أم ثغرات محتملة؟

حافظ المشروع على إعفاءات أساسية لضمان عدم المساس بالحد الأدنى من حياة المواطن أو نشاطه الاقتصادي، ومنها المسكن الرئيسي، والعربات ذات القوة الجبائية الضعيفة، والعقارات ذات الصبغة المهنية المستغلة فعلياً في أنشطة اقتصادية، والأصول التجارية النشيطة.
وإن كانت هذه الإعفاءات تبدو منطقية وضرورية، فإنها في المقابل قد تتحول إلى نقاط ضعف يستغلها البعض للتحايل، خصوصاً في السياقات التي يصعب فيها التثبت من الاستغلال الفعلي أو التفريق بين النشاط المهني الحقيقي والاستخدام الصوري للعقار.
أما في ما يتعلق بالتصريح بالضريبة على الثروة فقد أبقى المشروع على نفس قواعد التصريح التي كانت تُطبّق على الضريبة على الثروة العقارية ورغم أن الضريبة الجديدة توسّعت لتشمل أصولاً مالية ومنقولات داخل تونس و خارجها، وضبط آخر أجل للتصريح وهو موفى شهر جوان، وربط مكان التصريح بمقر السكن الرئيسي أو بمكان العقار الأعلى قيمة.

غياب الأدوات يهدد مصداقية القانون

ان المتمكن من أدوات قراءة صحيحة للتغيرات الكبيرة التي طرأت على الفصل 23 يلاحظ ان المسألة تتعدى حدود الإجراء لتعرقل التنفيذ على اعتبار ان تقييم الثروة يتطلب منظومة معلومات موحّدة تربط بين البنوك، الشركات، العقارات، البورصة، الديوانة، والمعاملات الخارجية وتونس إلى حد اليوم لا يوجد ما يفيد أن مصالح مراقبة الأداءات تمتلكمنظومة معلوماتية بهذا الحجم مما يجعل عملية التقييم تعتمد بشكل كبير على تصريحات المكلّفين، وهو ما يفتح الباب أمام التلاعب وإخفاء جزء من الثروة.
تطرح عملية تقدير القيمة التجارية للأصول التي يمتلكها المطالب بالضريبة المعني مثل العقار عدة إشكاليات خاصة وأن الدولة لم توفر أية مراجع مع عدم قدرة المواطن على تقدير القيمة التجارية لعقاراته أو تحديد قيمة الأوراق المالية التي يمتلكها أو المنقولات على غرار السيارات والأثاث.فتقييم المحافظ المالية والعقارات بالخارج، والأصول غير المادية يتطلب خبرات دقيقة في المحاسبة المتقدمة والمالية وهي خبرات لا تتوف لدى مصالح مراقبة الأداءات كما أنها مكلفة للغاية بالنسبة للمواطن، قد يدفع التوسيع في وعاء الضريبة على الثروة أصحاب الثروات على المناورة عبر تسجيل الثروة باسم شركات،إنشاء شركات قابضة تحجب الملكية الحقيقية وتحويل الثروات إلى لخارج، والبيع الصوري داخل العائلة، وتنويع استعمال هياكل قانونية للتمويه الجبائي.
وفي ظل غياب منظومة رقابة حديثة، ستجد الإدارة نفسها أمام ضريبة لا تخضع لها إلا الفئة “المُصرّحة”، بينما يظل الأكثر ثراءً خارج دائرة المحاسبة.

القانون يتطور لكن الإدارة لا تواكب

يشكل المشروع من حيث المبدأ، قفزة نوعية مقارنة بالفصل القديم، لكنه في المقابل يكشف عن هوة واسعة بين النص والواقع فالسؤال لم يعد يتعلق بعدالة الضريبة بل أصبح يتعلق بقدرة الإدارة الجبائية على التطبيق وقدرة المواطن على القيام بالالتزامات المحمولة عليه في نطاق هذه الضريبة؟

إنّ التفاوت بين طموح المشرّع وقدرات الإدارة يجعل الخطر الأكبر ليس في الضريبة نفسها، بل في انتقائيتها أي أن تُطبّق على البعض وتُغضّ الطرف عن البعض الآخر، وهو ما يقوّض الثقة في المنظومة الجبائية برمتها.
إنّ تحقيق العدالة الجبائية لا يتم عبر سنّ الضرائب فقط، بل يتطلب قبل ذلك تحديث الإدارة، ورقمنة المعاملات، بالإضافة إلى ربط قواعد البيانات، وتكوين كفاءات مالية متخصصة، وبناء منظومة شفافة تمكن من التأكد من شفافية التصرف في موارد هذه الضريبة
وايضا بناء منظومة رقابية تمنع التهرب ولا تظلم الملتزمين.
من دون هذه الشروط، ستظل ضريبة الثروة عنواناً لنية تحقيق العدالة الجبائية أكثر منها أداةً فعّالة لتحقيقها وضريبة ، تنتظر دولة قادرة على تنزيله إلى أرض الواقع.

خلاصة القول فإن مشروع قانون المالية الجديد لم يكتف بتعديل الفصل 23 من المرسوم عدد 79 لسنة 2022، بل أعاد تعريف مفهوم الضريبة على الثروة في تونس، وبينما يُنتظر أن تعزّز هذه الصياغة موارد الدولة وتدعم العدالة الجبائية، فإن نجاحها يظل رهين القدرة على التطبيق الفعلي والرقابة الفعّالة، بعيداً عن أي توظيف سياسي أو إجراءات غير قابلة للتنفيذ.

إنها خطوة جريئة… لكنّها لن تكون مفيدة إلا إذا تحوّلت من نص قانوني إلى واقع جبائي منضبط وشفاف.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115