باعتبارها قوة ناعمة ورافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. في هذا السياق، جاءت ميزانية وزارة الشؤون الثقافية لسنة 2026 محمّلة بوعود كثيرة ورؤية إستراتيجية تمتد إلى أفق 2030، هدفها جعل الثقافة مكوّنا من مكوّنات الاقتصاد الوطني ومحرّكا للتنمية المستدامة. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل تكفي الإمكانيات المرصودة لتحقيق هذا الطموح؟
عقدت لجنة السياحة والثقافة والخدمات يوم الجمعة الفارط جلسة مشتركة مع لجنة الاستثمار والتعاون الدولي بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم استمعت خلالها إلى السيدة وزيرة الشؤون الثقافية أمينة الصرارفي حول مشروع ميزانية وزارة الشؤون الثقافية لسنة 2026.
رؤية طموحة... وأهداف كبرى
قدّمت وزيرة الشؤون الثقافية خلال جلسة الاستماع أمام لجنة السياحة والثقافة والخدمات بالمجلس الوطني للجهات والأقاليم مشروع ميزانية الوزارة لسنة 2026، والذي قدّرت قيمته بـ 460.969 مليون دينار، مقابل 425.490 مليون دينار في سنة 2025، أي بنسبة تطوّر تبلغ 8%.
ورغم محدودية الزيادة، حملت الوزيرة خطابا طموحا، أبرزت فيه توجّه الوزارة نحو صياغة منوال ثقافي جديد يدمج بين الإبداع والتراث والاقتصاد، ويهدف إلى رفع مساهمة الاقتصاد الثقافي والإبداعي إلى 3% من الناتج الداخلي الخام في أفق 2030.
وتحدّثت أيضا عن حزمة من الإجراءات، من أبرزها تفعيل صندوق التشجيع على الاستثمار الأدبي والفني، ورفع سقف القروض الثقافية إلى 300 ألف دينار، إلى جانب تبسيط الإجراءات الإدارية وإعادة هيكلة مدينة الثقافة وقطاع التراث، فضلا عن مشاريع رقمنة التراث الوطني باستخدام الذكاء الاصطناعي والمسح ثلاثي الأبعاد.
الواقع المالي يقيّد الطموحات
رغم وجاهة هذه التوجهات، إلا أنّ القراءة المالية تكشف عن فجوة واضحة بين الأهداف المعلنة والإمكانيات المرصودة. فميزانية لا تتجاوز نصف مليار دينار تبدو غير كافية لتغطية حاجات قطاع مترامي الأطراف يعاني من هشاشة البنية التحتية، وتراجع الأنشطة الجهوية، وضعف التمويل للمهرجانات والمشاريع الإبداعية.
كما أن التحديات الاجتماعية تظلّ قائمة، إذ ما تزال ملفات التشغيل الهش وتسوية وضعيات المتعاقدين مفتوحة دون حلول جذرية، وهو ما يُضعف استقرار المنظومة الثقافية ويحدّ من مردودها.
كذلك، فإنّ ضعف التنسيق المؤسساتي بين الهياكل التابعة للوزارة، مثل المعهد الوطني للتراث ووكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، ما يزال من العوائق المزمنة التي تعيق تنفيذ المشاريع وتؤخر مراجعة مجلة حماية التراث.
بالرغم من أنّ التراث التونسي يمثل ثروة وطنية ضخمة، لكنها لا تزال خارج الدورة الاقتصادية الفعلية. ورغم إعلان الوزارة عن برامج لتهيئة المتاحف ورقمنة الأرصدة الفنية، فإن ضعف التمويل وتأجيل الإحداثات الجديدة جعلا أغلب المشاريع تسير بوتيرة بطيئة.
الجهات على الهامش
خلال النقاش البرلماني، عبّر النواب عن خيبة أملهم من ضعف الحضور الثقافي في الجهات الداخلية، وعن غياب عدالة في توزيع المهرجانات والتمويلات. فالمشهد الثقافي ما يزال متركزا في العاصمة والمدن الكبرى، في حين تفتقر المناطق الداخلية إلى البنية التحتية الثقافية والمكتبات والمراكز الفاعلة.
وبينما تتحدث الوزارة عن مسالك ثقافية وسياحية ذكية، تبقى الحاجة ملحّة إلى سياسات ميدانية تضمن مشاركة فعلية للجهات في صناعة المشهد الثقافي الوطني.
ثقافة الأرقام أم أرقام الثقافة؟
إنّ تحويل الثقافة إلى قطاع منتج يتطلب أكثر من النوايا الحسنة، إنه يحتاج إلى مؤشرات أداء واضحة، ومتابعة تنفيذية دقيقة، وإرادة سياسية جادة. فالخطاب حول الاقتصاد الثقافي جميل ومُلهم، لكن بدون آليات تمويل فعّالة وشراكات حقيقية مع القطاع الخاص، سيظل هذا الخطاب أقرب إلى التنظير منه إلى التنفيذ.
في المحصّلة، تُعدّ ميزانية الشؤون الثقافية لسنة 2026 خطوة إيجابية من حيث الرؤية والتوجّه، لكنها تظل أسيرة الإمكانيات المالية المحدودة والبيروقراطية الإدارية.
فالرهان اليوم ليس فقط على زيادة الأرقام، بل على تحويل الثقافة إلى مشروع وطني شامل يوحّد بين الفن والاقتصاد، وبين المركز والجهات، وبين الماضي والمستقبل.
وإلى أن يتحقق ذلك، ستبقى الثقافة في تونس تعِدُ بالكثير... لكنها تنجز القليل.