تشديد الخناق الاقتصادي على موسكو، أقرت دول الاتحاد رسميا، أمس الخميس، الحزمة التاسعة عشرة من العقوبات ضد روسيا، على خلفية استمرار الحرب في أوكرانيا. وتعدّ هذه الحزمة من أكثر الإجراءات الأوروبية شمولا منذ اندلاع الحرب في فيفري 2022، إذ تمتد لتطال قطاعات الطاقة والمال والتجارة والدبلوماسية على حد سواء، في محاولة لتقويض قدرة الكرملين على تمويل نفقاته العسكرية.
ومن أبرز بنود الحزمة الجديدة هو الحظر المفروض على واردات الغاز الطبيعي المسال الروسي ،وهو قطاع ظل حتى الآن بمنأى عن العقوبات الأوروبية الصارمة التي طالت النفط والفحم. ويُفترض أن يدخل الحظر حيز التنفيذ على مرحلتين ، المرحلة الأولى بعد ستة أشهر وتشمل العقود قصيرة الأجل،المرحلة الثانية اعتبارا من جانفي 2027 وتشمل العقود طويلة الأجل.
ويأتي هذا الإجراء قبل عام كامل من الجدول الزمني الذي رسمته المفوضية الأوروبية لإنهاء اعتماد الاتحاد على الوقود الأحفوري الروسي، ما يعكس رغبة أوروبية في تسريع فك الارتباط الاقتصادي مع موسكو، رغم المخاوف من ارتفاع أسعار الطاقة خلال فصول الشتاء المقبلة.
ويرى مراقبون أن هذا الحظر يحمل رمزية سياسية قوية أكثر من كونه ضربة فورية لاقتصاد روسيا، إذ إن الغاز المسال يمثل نسبة محدودة نسبيا من إجمالي صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا مقارنة بالنفط الخام. إلا أن تأثيره يتجاوز الجانب الاقتصادي إلى رسالة إستراتيجية واضحة بأنّ الاتحاد الأوروبي عازم على تقليص أي نافذة مالية قد يستفيد منها الكرملين لتمويل حربه.
وقالت موسكو أمس الخميس إن خطط الاتحاد الأوروبي لفرض حظر على واردات الغاز الطبيعي المسال الروسي هي تدمير للنفس، نظرا لنقص احتياطيات الغاز في أوروبا والاستهلاك المتزايد للطاقة من قطاع الذكاء الاصطناعي.وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إن الاتحاد الأوروبي لم يأخذ في الاعتبار تأثير الإجراءات التي يتخذها على أسواق الطاقة أو على مصالح التكتل نفسه.
وأضافت "نتحدث عن ذلك الجزء من القارة الأوروبية الذي لا يمتلك الاحتياطيات الضرورية من النفط والغاز... نذكِّر بخططهم للتحول الرقمي وإدخال الذكاء الاصطناعي، سيحتاجون إلى طاقة أكثر بكثير من ذي قبل. لذا نسأل أنفسنا - كيف؟".وشبهت زاخاروفا تصرفات الاتحاد الأوروبي بما يعرف باسم "الزومبي" الذي لا يستطيع فهم الضرر الذي يلحقه بمصالحه الخاصة وفق ''رويترز''.
انقسام أوروبي وتحديات داخلية
لم يكن التوصل إلى اتفاق حول هذه الحزمة بالأمر السهل، إذ ترددت سلوفاكيا في الموافقة عليها بسبب اعتمادها الكبير على واردات الطاقة الروسية، قبل أن تتراجع في اللحظات الأخيرة. هذا التردد يعكس التباين داخل الاتحاد بشأن كيفية الموازنة بين الاعتبارات الجيوسياسية ومصالح الدول الأعضاء الاقتصادية، خاصة تلك الواقعة في وسط وشرق أوروبا والتي ما زالت تعتمد جزئيًا على الطاقة الروسية.
وتدرك بروكسل أن تحدي الوحدة الأوروبية لا يقلّ أهمية عن الضغط على موسكو، إذ تسعى لضمان تماسك الموقف الأوروبي رغم الإرهاق الاقتصادي والسياسي الذي تسببت به الحرب.
وتشمل الحزمة أيضا إجراءات مالية جديدة تستهدف البنوك الروسية ومنصات تداول الأصول المشفّرة، في محاولة لسد الثغرات التي استخدمتها موسكو لتجاوز العقوبات السابقة. وقالت كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد، في منشور على منصة "إكس"، إن العقوبات "تستهدف روسيا من خلال البنوك ومنصات تداول الأصول المشفرة وكيانات في الهند والصين وغيرها"، في إشارة إلى دول وشركات يُشتبه في مساعدتها روسيا على الالتفاف على القيود الغربية.
ويرى خبراء أن إدراج الكيانات في دول مثل الصين والهند يعكس انتقال الاتحاد الأوروبي من سياسة العقوبات التقليدية إلى نهج أكثر تعقيدا وشمولا، يشمل مراقبة سلاسل التوريد والتجارة غير المباشرة. هذا التوجه الجديد قد يؤدي إلى توترات دبلوماسية مع شركاء اقتصاديين كبار، لكنه يعبّر عن تصميم أوروبي على سد كل المنافذ أمام موسكو.
قيود دبلوماسية غير مسبوقة
ومن أبرز ما تضمنته الحزمة كذلك آلية جديدة لتقييد حركة الدبلوماسيين الروس داخل أراضي الاتحاد الأوروبي، في خطوة وُصفت بأنها تهدف إلى الحد من الأنشطة الاستخباراتية تحت الغطاء الدبلوماسي. ويأتي ذلك ضمن مسعى أوروبي أوسع لتقليص النفوذ الروسي في القارة، خاصة بعد تزايد الاتهامات بضلوع موسكو في عمليات تجسس وهجمات إلكترونية داخل عدد من الدول الأوروبية.
اقتصاديا، يرى مراقبون أن الاتحاد الأوروبي قد يواجه تحديات في تأمين بدائل مستدامة للغاز المسال الروسي، خاصة في حال ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة خلال الشتاء المقبل. غير أن بروكسل تراهن على الاستثمارات المتزايدة في البنية التحتية للطاقة المتجددة والغاز المسال الأمريكي والقطري لتعويض الفجوة المحتملة.
أما على المستوى الجيوسياسي، فيتوقع محللون أن ترد روسيا بخطوات تصعيدية، سواء عبر تشديد القيود على صادرات المواد الخام أو عبر محاولات جديدة لتقويض وحدة الموقف الأوروبي، مستفيدة من التوترات الداخلية والضغوط الاقتصادية المتزايدة على بعض الحكومات.
بهذه الحزمة، يخطو الاتحاد الأوروبي خطوة جديدة في طريق طويل نحو الانفصال الكامل عن المنظومة الاقتصادية الروسية التي ربطت القارة بموارد موسكو لعقود. وقد لا تكون آثار هذه العقوبات فورية، لكنها تؤسس لمرحلة جديدة من الردع الاقتصادي طويل الأمد، تهدف إلى تقليص النفوذ الروسي في أوروبا، وتعزيز استقلالية القرار الأوروبي في مجالي الطاقة والسياسة الخارجية.
وبينما تحاول بروكسل الموازنة بين مبادئها وقيمها من جهة، وضروراتها الاقتصادية من جهة أخرى، تبقى الحقيقة أن الحرب في أوكرانيا لم تعد مجرد صراع حدودي، بل تحوّلت إلى معركة اقتصادية عالمية تعيد رسم خرائط التحالفات والتوازنات على الساحة الدولية.