" برزخ" لقيس الماجري في القاعات التونسية: مغامرة سينمائية بين الواقعي والماورائي

عند الحدّ الفاصل بين الواقعي والميتافيزيقي

بين المرئي والماورائي، يقف فيلم "برزخ" لقيس الماجري ليقترح سردية غير تقليدية وفرجة غير مألوفة على شاشة السينما. منذ عتبة عنوانه كشف فيلم "برزخ" عن مضمونه ، وهو الذي جالت كاميراه في عالم يتأرجح بين الحياة والموت، بين اليقين والشك، بين ما نراه وما نتخيّله... ليتحوّل الصراع الإنساني الداخلي إلى مرآة لأسئلة كونية وحيرة وجودية.

في أول تجربة روائية طويلة له، غامر المخرج التونسي قيس الماجري في فيلمه "برزخ" في اعتماد رؤية إخراجية تعتمد على الإثارة والخيال والموروث الشعبي ... وبعد أن شارك في المسابقة الوطنية لأيام قرطاج السينمائية 2024، انطلق عرض الفيلم في قاعات السينما التونسية.

صراع الماضي يعمّقه حدث سماوي

تبدو حكاية فيلم "برزخ" بسيطة في ظاهرها ومعتادة في تفاصيلها حيث تسرد تفاصيل خلاف قديم بين رجلين، إرث من الطفولة تجدّد في الكبر مداره الصراع حول ملكية الأرض. لكن كل شيء ينقلب رأسا على عقب حين يسقط جسم غريب من السماء، ليحوّل الصراع الشخصي إلى مواجهة مع المجهول. هذا الجسم الذي يشبه النيزك ما لبث أن حمل الأبطال ومعهم الجمهور إلى أرض غريبة، لا تنتمي كليا إلى الواقع ولا إلى الحلم. مثّل هذا الحدث قادحا دراميا أحاط الشخصيات بقدر أكبر من الغموض. في هذا الإطار، نجح المخرج في تحويل الحدث السماوي إلى استعارة رمزية عن اقتحام "الغريب" لحياتنا، عن انكسار النسق اليومي والطمأنينة المعتادة أمام قوى مجهولة.
ما يميّز "برزخ" أنّ المخرج لم يسرد الحكاية وفقا لخط مستقيم، بل صاغها عبر طبقات من الغموض تتبدل وتتغير فيها الأزمنة والأمكنة. ومن نقاط القوة في الفيلم أن النص الذي كتبه كريم العموري ينساب بين المشاهد كما لو أنه همس شعوري يثير الدهشة بقدر ما يحرّك الغموض. يحدث أن يشعر المتفرج لوهلة أنه جزء من هذا البرزخ !

المكان.. بين اللعنة والانتماء

يتحرك أبطال "برزخ" داخل أرض شاسعة الأطراف لكنها قد تضيق عليهم حدّ الاختناق. وقد التبس المكان بأبعاد بصرية تعمّق المعنى الوجودي للفيلم . فلم تكن المعركة تدور على أرض ملموسة وإنما في فضاء هش تتطاير فيه الكائنات والشخصيات...
من أبرز عناصر قوة فيلم برزخ تميز طاقم التمثيل في الأداء من خلال النجاح في تجسيد التوتر النفسي والصراع الداخلي للشخصيات بصدق ملحوظ. وقد ظهرت فاطمة ناصر في حضور مقنع، يمزج بين الهشاشة والقوة. بينما أضفي جمال المداني عمقا على الصراع الشخصي المتأزم. أما محمد السياري، فلعب ببراعة دور "الشيخ" المشعوذ بطريقة أضفت على مشاهد الفيلم إثارة وتشويقا... وبدوره ، لعب أسامة كشكار دوره بمنتهى الارتياح والإبداع دون تصنع أوتكلف... وحتى الوجه الجديد في الفيلم الذي جسدته نور بالطيب (ابنة سنية الدهماني) فقد أحسنت أداء دور الخادمة "نوال" بالرغم من التحولات النفسية والجسدية العميقة والمعقدة التي عرفتها الشخصية.
في تصوير مشاهد "برزخ"، اعتمد قيس الماجري لغة بصرية تقوم على التباين بين الضوء والظل، بين النهار والليل، بين الفضاءات المفتوحة الموحية بالحرية والمشاهد المغلقة التي تكرّس الإحساس بالاختناق. وقد عاد الفيلم إلى الموروث الشعبي التونسي من أساطير وسحر واستحضار الجن وأسئلة حول الموت والبرزخ، ليؤسّس حكاية تزاوج بين المحلي والكوني.
على أوتار البعد النفسي، أجاد "برزخ" العزف على انفعالات الجمهور. كما يدخل الفيلم أبطاله في صراع ضد بعضها البعض فإنه يضع الشخصيات في مواجهة مستمرة مع ذواتها. فمن يملك السلطة؟ من يخضع للخوف؟ من يجرؤ على مواجهة المجهول؟ هي أسئلة لا يطرح الفيلم بصفة مباشرة إنما ينقلها من خلال حالات التوتر والقلق والتكرار الزمني الذي يربك المتلقي ويضعه بدوره في حالة قلق وجودي. إنها تجربة برزخية يتداخل فيها التمييز بين الحقيقة والوهم.

الدم في "برزخ" بين الضرورة الفنية وحساسية المتلقي

يسبح فيلم برزخ للمخرج قيس الماجري في الكثير من مشاهده في برك من الدم بشكل قد يخرج عن المألوف في السينما التونسية. صحيح أن الفيلم يخوض في عوالم الغموض والماورائيات لكن توظيفه لمشاهد الدماء قد لا تمرّ مرور الكرام بل تهزّ المتفرج وتدفعه للتساؤل : لماذا كل هذا الدم؟
في محاولة تتبّع البناء الرمزي للفيلم، قد يبدو الدم ليس فقط مجرد مؤثر بصري لإثارة الرعب أو شدّ الانتباه بل لغة بصرية تعبّر عن الجرح العميق، عن العنف الكامن داخل الشخصيات، عن الصراع الذي يتجاوز حدود الواقع ليصل إلى الروح.
لكن الإشكال يظهر عند لحظة التلقي. فالجمهور التونسي، رغم انفتاحه على السينما العالمية، لم يعتد بعد على حضور مكثّف للدم في الأفلام التونسية مقابل طغيان سينما المؤلف أو السينما الواقعية أو الكوميديا الاجتماعية... لذلك قد يشعر بالغرابة أمام مشاهد دموية مباشرة قد تحتمل نسبة كبيرة من المبالغة.
في "برزخ" خاض المخرج قيس الماجري مغامرة فنية ولكن كل مغامرة لا تخلو من مخاطر... فالإفراط في الرمزية أحيانا تسبب في بطء الإيقاع وضبابية الحبكة الدرامية وتشتت التوازن بين البعد الدرامي الواقعي والخيال الغامض.
في نهاية المطاف ليس "برزخ" فيلما للفرجة السهلة، بل هو تجربة بصرية ونفسية تستفز الحواس والإحساس قد تعجب المتفرج وقد لا ترضيه بالضرورة لكنه يبقى فيلما يذكّرنا أنه بين النور والظلام مساحة رمادية علينا أن نتخطاها شئنا أم أبينا !

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115