فيلم «صنع في هنشـيـر الڨــصـعة» لجلال الدين فايزي حرفيات الحلفاء... بطلات الأرياف والسينما

هنّ نساء الحلفاء بين أناملهن تزهر القسوة جمالا

وتطيعهن النبتة القاسية كطير أليف، فيحوّلن الحلفاء إلى ذاكرة وطن. ومن صبر حرفيات صادقن الحلفاء، ومن كدح فنانات الطبيعة على السليقة وبالفطرة، ولدت حكاية فيلم «صنع في هنشـيـر الڨــصـعة» للمخرج جلال الدين فايزي لتضئ شاشة الفن السابع بنور قادم من بعيد ، من أحد أرياف القصرين. فلا يكتفي هذا الوثائقي بالتعريف بحرفة تقليدية بل يفتح نافذة على عالم نسائي خالص يكتب خصوصية جهة وهوية وطن بأصابع متشققة ومتعبة وبعيون مفعمة بالأمل رغم التعب.

على شاشة الدورة الخامسة للمهرجان الدولي للفيديوهات التوعوية بسوسة، تم عرض فيديو «صنع في هنشـيـر الڨــصـعة» لجلال الدين فايزي باعتباره أحد العناوين المرشحة للمسابقة الوطنية "تونس السياحة بعدسة الإبداع … قاطرة للتنمية".

"الخالة تبر" وجه الذاكرة والتفاصيل...

من بين أنامل الحرفيات تنبثق الحكايات... حكايات عن الأرض والصبر والحلم... حكايات ممزوجة بالدموع أو موّقعة بالزغاريد تماما مثل كفوف "الخالة تبر" المخضبة بالحناء، وتجاعيد وجهها التي نحتها الوجع قبل الزمن، ونظرات عيونها التي تخفي رغم قوتها وثباتها قهر الانكسار والفقدان... فليس من الغريب أن تكون هذه العجوز التي بلغت من العمر عتيّا ولا تزال تحافظ على مسحة عالية من الجمال هي الوجه الذي التقطته كاميرا جلال الفايزي في مشهدها الأول لتتواطأ معه في بقية المشاهد. احتلت "الخالة تبر" كبورتريه سينمائي بامتياز شاشة فيديو «صنع في هنشـيـر الڨــصـعة» في جاذبية غريبة وكأنها سؤال لا يعرف الإجابة.
يأتي الفيلم الوثائقي أو الفيديو الذي لم يتجاوز خمس دقائق ليضعنا أمام عمل بصري متماسك يزاوج بين التوثيق والسينما الشاعرية حول نساء الحلفاء في هنشـيـر الڨــصـعة من منطقة بوزڤام في أحد أرياف القصرين. لا يسعى فيلم «صنع في هنشـيـر الڨــصـعة» فقط إلى تسجيل يوميات النساء الحرفيات في تحويل الحلفاء إلى تحف ومنتوجات بل إلى بناء خطاب بصري عن علاقة المرأة بالطبيعة و بخصوصية الجهات ، وعن قدرة السينما على تحويل الحِرَف إلى لغة رمزية.
يتجوّل المخرج جلال الفايزي بين الحلفاء وملامح الحرفيات وعلى كتفه كاميرا حميمية تقترب من الوجوه والأيدي، فتجعل تفاصيل النسيج بطلا بصريا في ذاته. بين أحضان الطبيعة، تشتغل حرفيات الحلفاء حيث يفترشن الأرض ويحتمين بظلال أغصان الزيتون ... وقد جاءت الإضاءة الطبيعية في الفيلم لتُضفي بدورها صدقا على المشاهد وشعورا بالارتياح والانعتاق.

يبدعن الجمال ولا يبعن فقط السلال

في ورشة حية مفتوحة للريح وللبوح، تتحرك أنامل نساء الحلفاء في هنشـيـر الڨــصـعة بخفة وصبر، تجدل وتخيط، بينما تتعالى ضحكات خفيفة وحكايات قديمة وأهازيج شعبية تذيب رتابة الساعات. تجمع الحرفية "حنان الميساوي" حولها حوالي عشرين امرأة وفتيات صغيرات أيضا يتعلمن سر الحرفة في فضاء مفتوح على الطبيعة ، بلا جدران ولا أبواب لكنه بيتا للحرفة ومنزلا للذاكرة. بكثير من القناعة والطموح، تقول حنان الميساوي أمام كاميرا جلال الفايزي:" نحتاج الدعم والتشجيع للانتشار ومزيد التسويق... لايهمنا المال بل كل همنا أن تبقى أسمائنا محفوظة نحن نساء هنشـيـر الڨــصـعة كحرفيات حلفاء يبدعن الجمال ولا يبعن فقط السلال ... "
يوازن سيناريو الفيلم رغم دقائقه المعدودة بين البعدين التوثيقي والدرامي. فهو لا يكتفي بسرد قصص شخصية عن النساء الحرفيات، بل يفتح أسئلة اجتماعية حول هشاشة الاقتصاد الريفي وتهميش الصناعات التقليدية. كما يبرز «صنع في هنشـيـر الڨــصـعة» كيف تحوّلت الحِرفة النسائية إلى مقاومة رمزية، وسلاح صامت ضد النسيان والإقصاء.
اختار المخرج الشاب والعصامي جلال الفايزي البساطة في الصورة والبطء في إيقاعها لتتناغم مع نسق الحياة الريفية. وتكمن قوة الفيلم في تقديم الحرفيات كفاعلات أساسيات في معركة البقاء، لا كصور فولكلورية عن المرأة الريفية.
لا يقتفي فيلم «صنع في هنشـيـر الڨــصـعة» أثر حرفة يدوية هي كالوصية التي تتناقلها الحفيدات من الجدات ليس من أجل القوت فحسب ، بل من أجل حراسة ذاكرة تشهد على بطولة صمود نسائي في وجه العزلة والفقر...
كما يلازم حلم الشهرة والانتشار حرفيات الحلفاء، يراود المخرج جلال الفايزي حلم تحويل «صنع في هنشـيـر الڨــصـعة» إلى فيلم وثائقي طويل. وقد يتحقق هذا الحلم ليكون الفيلم الثاني في مسيرته بعد فيلمه الأول "فزاعات المنطقة الحمراء" الذي فاز في الساعات الأخيرة بجائزة أفضل فيلم مستقل في اختتام المهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية.

المشاركة في هذا المقال

Leave a comment

Make sure you enter the (*) required information where indicated. HTML code is not allowed.

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115