. كيف لا ؟ وقد عبّرت ببحرها عليسة، فوقف على بابها التاريخ لأعوام، واستقر عند عتبتها الحمام واليمام وطيف الأحلام...
في انعكاس لمرآة حضارة عريقة، وفي رجع الصدى لامرأة أسطورة، وفي ظلّ مدينة تنام على أمجاد الحضارة، جاءت المعلقة الرسمية لمهرجان قرطاج الدولي في دورته 59 لسنة 2025 رائقة الجمالية وراقية الرمزية بتوقيع المبدع عاطف معزوز وبإمضاء الخطاط عمر الجمني.
لا تقدّم المعلقة الرسمية لمهرجان قرطاج الدولي مجرد صورة جميلة، بل تُشرع بوابة مفتوحة على التاريخ، على الأسطورة، على التأملات، على الأمنيات... إنها ثقافة واسعة ورؤية فنية متفردة ومسيرة بحث وجهد عكسها تصميم معلقة مهرجان قرطاج الدولي. فلا غرابة أن تأتي من ابتكار الفنان عاطف معزوز الذي يرسم وجه المهرجانات التونسية بجمالية فائقة في احترام لبلاغة الصورة كما نظّر لها "رولان بارت".
تطل المعلقة على أوج فسيح من الأزرق العميق، ويتجاوز توظيف الخلفية الزرقاء مجرد الاختيار اللوني لدلالات الاسترخاء والهدوء والسلام ، ليمثّل في المقابل استدعاء لعنصرَي الماء والسماء. إنّه البحر الذي زفّ عليسة عروسا وأسطورة لقرطاج ، وإنها السماء الراعية لنجمات الجمال والذكاء والشاهدة على ملاحم وبطولات وأمجاد مرّت بأرض قرطاج مهد الحضارات.
في منتهى البهاء والكبرياء، تقف امرأة مجهولة أو هي علّيسة وفقا لما يشي به لباسها التاريخي... لكنها لا تنظر مباشرة إلينا بل تستدير نحو الأفق وتثير الفضول بغموض صمتها وشموخ إطلالتها. فهل هذه المرأة الملكة هي قرطاج نفسها أوهي ظلّها المعاصر؟
في ثوب أبيض مشبع بالرمزية، تستند المرأة بثبات على قدمي السكون والسكوت، ليحدّث بدلا عنها اللون الأبيض عن الصفاء الحضاري وعن نقاء الذاكرة وعن الاستعداد الدائم للتجدّد. أما الوشاح الأرجواني الذي تدلى على كتفها فبدا كقنديل من نور ونار يحتفظ بتوّهج ماض تليد وبنشوة الانتصار.
في منطقة وسطى ما بين الأحمر والأبيض، عكست إسوارة اليد الذهبية وأيضا الحزام الذهبي على الخصر إشراقة ملكة وفخامة قائدة وعظمة حضارة بمرتبة الأسطورة.
كإطار تاريخي للمعلقة، يظهر القوس الروماني أو "قوس النصر" كمسرح أثري تعتليه المرأة / عليسة ليكون بمثابة العتبة الرمزية بين زمنين، بين مكانين، بين أمنيتين : الماضي البعيد والحاضر المأمول، تونس على شاطئ المتوسط وما عالم ما وراء البحار، المجد القديم وأمنية التصالح مع المكان والزمان.
وفوق القوس، يسطع قرص ذهبي يُحاكي العملات القرطاجية القديمة أو يشبه شمسا لاهوتية ليكون هوية بصرية لمهرجان قرطاج الدولي. من معلقة مهرجان قرطاج تطل هالة من النور، قد تكون أضواء المسارح حين يرفع الستارة، وقد تكون ظلال الماضي التي يستظل بأمجادها الحاضر، وقد تكون بريق الأمل في التطلع إلى المستقبل.
في عودة إلى التاريخ، حمل شعار مهرجان قرطاج اسم "قرط حدشت" بماهو التسمية الفينيقية لقرطاج أو قرطاجة. وقد ورد في المراجع أن "قرط حدشت" هو تحريف للاسم العربي «القرية الحديثة» أو "المدينة الجديدة". وبحروف الخطاط التونسي القدير عمر الجمني تلألأت "قرط حدشت" باللون الأصفر الساطع تماما كلمعان الحضارة القرطاجية في سالف العصر والأوان. عن هذا الاختيار الفني والثقافي ، أكد الفنان عمر الجمني لـ "المغرب" أنّ للشعار قيمة معرفية بالغة الأهمية وهي إعلام الناس بالاسم القديم لقرطاج إلى جانب التعريف بالكتابة البونية التي كانت تعتمد الرموز في أبجديتها. أما على مستوى التصميم فأعتبر عمر الجمني أننا نعيش في عصر حديث يتطلب ابتكار خط سريع ومعاصر يتماشى مع الراهن ، وهو ما جعل المعلقة تنجح في الربط بين التاريخ والمعاصرة دون سقوط في التمجيد الأعمى أو الانسلاخ المنحل من جذور الهوية.
بعيدا عن السطحية والمباشرتية والنزعة الدعائية، تأتي معلقة مهرجان قرطاج الدولي كفعل مقاومة فنية يطرح سؤالا هوويا عميقا: كيف نعيد تقديم قرطاج دون أن نخون أسطورتها، ودون أن نفلت من يدنا الحلم؟