Print this page

كرنفال الحلفاء "كرنا حلفا" للمركز الثقافي الجبلي بسمامة : الحلفاء من الخفاء إلى الأزياء والأضواء

في سباسب الجفاف تنبت الحلفاء في كبرياء بلا ادّعاء

لا تُزهر الحلفاء لكنها تُقاوم بصبر ولا تطالب بالماء، لكنها تُهديه الظل. تحفظ الحلفاء ذاكرة نساء يجدلن الضوء في الحصير، وصدى نايات رُعاة ينسجون بين نغماتهم ومواسمها صداقة خالدة. واليوم، يُعيدنا كرنفال الحلفاء "كرنا حلفا" إلى تلك الجذور الأصيلة، إلى تلك الذاكرة الخضراء ، إلى تلك النبتة البرية ليحوّلها إلى مادة فنية في شكل أزياء تلبس الجسد وخامات أساسية تستوطن اللوحات وتجسّد المنحوتات ... لتصبح الحلفاء لغة تشكيلية وأزياء كرنفالية وسيرورة اجتماعية وثقافية متكاملة وملهمة ومتواصلة في الزمان والمكان.

في كرنفال الحلفاء، لم تكن الحلفاء مجرد رمز بيئي أو موروث رعوي، بل أصبحت نسيجا حيّا يلبس الأجساد ويرافق الخطى، ولوحة تتحرّك في الفضاء، وعروسة تشكلها الخيوط والأنامل والخيال... وفي مساء 27 جوان 2025، وفي سماء "ليلة الأفكار" التي نظّمها المعهد الفرنسي بتونس كان كرنفال الحلفاء نجوما تشع بالجمال وبسحر الأجواء الأسطورية والشخصيات الخرافية والحكايات العجائبية...

الفن البيئي... الحلفاء قضية وهوية

قبل كرنفال الحلفاء، ظلت استعمالات الحلفاء محصورة في الحصير والسلال، كانت تعيش في الخفاء وتقبع في الظل، بينما كانت الأضواء مسلطة على الأقمشة المستوردة والبلاستيك الميت بلا روح... لكن في كرنفال الحلفاء، حدث التحوّل الكبير. لقد تجلّت الحلفاء في كرنفالها في عروض أزياء ومنحوتات ولوحات وعرائس... في رؤية متفردة للفنان عدنان الهلالي وشركائه في مشروع "كرنا حلفا" الفريد من نوعه، تم الإعلان عن التأسيس لوعي جمالي بديل، يعيد للمواد الطبيعية مكانتها في الثقافة البصرية المعاصرة.

في هذا الكرنفال، لم تكن الحلفاء مجرد نبتة جوفاء من الشاعرية والرمزية بل كانت ذاكرة حية ومتجددة مادة تُعيد وصل ما انقطع بين الإنسان وأرضه، بين الجسد والهوية، بين الجمال والبيئة. ففي زمن تزداد فيه القطيعة مع الطبيعة، جاء كرنفال الحلفاء كإعلان للمصالحة ولإعادة استعمال هذه النبتة كمادة فنية متعددة الاستعمالات والاستعارات خارج سياقاتها المعتادة والمتوارثة . فالفن هنا لم يكن ترفا إنما موقفا. هي رسالة بأنّ الجمال ممكن في البساطة، وبأن الإبداع لا يحتاج لوسائل معقدة، بل لعين ذكية تنفذ إلى ما وراء المعتاد لتقتنص لحظة ابتكار وطريقة اختراع لم يسبق الصول إليها أو قولها بجنون عبقرية الفن.
كرنفال الحلفاء لم يكن فقط احتفالا بالألوان والمواد، بل منصة للتفكير في علاقة الفن بالطبيعة في عصر تتلاشى فيه الروابط مع الأرض ويتنكر فيه البشر لكوكبهم الأم.
لا شك أنّ استعمال نبتة برية متجذرة في تربتها وفي بيئتها وفي ثقافتها هو أيضا فعل بيئي مسؤول يؤكد أنّ العودة إلى الأصل ليست رجعية، بل رؤية استشرافية لإبداع مستدام وصديق للبيئة.

أزياء حلفاء ... نسيج من الضوء والهوية

في عروض الأزياء المنبثقة من قلب الكرنفال، لبست الحلفاء أجساد المشاركين كما لو كانت أغنية منسية عادت إلى الواجهة. حملت الملابس الثقيلة والخفيفة المصنوعة منها، بخشونتها وصبرها هوية الأرض، وتكلّمت بلغة الطبيعة. لم تكن القطع مجرد تصميمات، بل تجليات حيّة تسخر من التنميط السريع والتسليع التجاري.
في دائرة الضوء، لم تعد الحلفاء جزءا من الفلكلور المهمل، بل أصبحت لغة جمالية جديدة، تقول ما لم تقله الموضة السريعة، وتمنح للأناقة طابعا متجذرا في الذاكرة المحلية.
اختار المصممون من خريجي المعهد العالي للموضة بالمنستير مادة الحلفاء كقماش بديل لم يكونوا يبحثون عن "غرابة" تُعرض على المنصات بقدر ما أرادوا تثمين أصالة يمكن لباسها، وهوية يمكن ترجمها في أزياء وقصيدة تنسجها النساء الجبليات منذ عقود دون أن يسمعها أحد قبل كرنفال الحلفاء.
كل فستان، كل عباءة، كل غطاء رأس منسوج بالحلفاء، كان بمثابة لوحة تمشي فيها بصمات من ثبات الأرض، وفيها أنفاس من عطور الماضي. لم يكن اللون الترابي للحلفاء باهتا إنما بدا مشعا بالألوان وبحكمة الطبيعة. لم يكن القوام الخشن للحلفاء عائقا، بل كان دعوة للمس ما هو أصيل ولاكتشاف ما هو جميل في الخفاء كما تنبت الحلفاء!
في كرنفال الحلفاء، وفي تفاعل مباشر وحيوي مع الجمهور تمت دعوة الحضور لارتداء أزياء من الحلفاء ، ليتحوّلوا بدورهم إلى شخصيات في المشهد تصنع الفرجة، ليصبح الكرنفال جسرا بين الفن والحياة.

نساء الحلفاء... بطلات السينما والكرنفال

في زاوية مضيئة من كرنفال الحلفاء، ظهرت وجوه الحرفيات الجبليات من خلال وثائقي أنجزه المخرج الشاب جلال فايزي في اعتراف بأصالة يد عرفت منذ أجيال كيف تروّض الحلفاء وتحوّلها إلى صديقة ومورد رزق ثم إلى لغة جمالية وتعبيرة فنية .
في اقتفاء لحركة اليدين ولتجاعيد الزمن على وجوه جميلة ولخشونة كفيّن تعلما من الحلفاء الصبر والكرامة، رصدت كاميرا جلال الفايزي بحساسية جمالية عالية يوميات نساء الحلفاء وبطولاتهن في بعث الحياة من العدم.
هؤلاء النسوة اللواتي نشأن في تواطؤ حميمي مع الجبل والريح، وجدن أنفسهن في قلب كرنفال الحلفاء، لا كمجرد خلفية تراثية، بل كركيزة إبداعية حيّة، تملك من الحرفة والخبرة ما يكفي لصناعة مشهد ثقافي معاصر.

إنّ توثيق هذه المهارات اليدوية التراثية والمتوارثة في الأفلام الوثائقية لم يكن فقط لأرشفة ماض، بل كان بيانا اجتماعيا بأنّ المرأة في الأوساط الريفية ليست مجرّد صورة نمطية بل فاعلة ومبدعة وناطقة بلغة الأرض.
ليس غريبا أن تتصدر الحرفيات الجبليات كرنفال الحلفاء، وأن تضئ وجوههن الشاشة الكبيرة في وثائقيات وورشات حيّة تسرد كيف تُجدل الحلفاء، وكيف تُحاك كما القصائد، وكيف تتحوّل من نبتة في العراء إلى خيوط تُطرّز الأحلام.

وعلى طريقتهم كرّم شباب "فكرة" نساء الحلفاء و"طريق الحلفا" من خلال فيديو كليب طريف يُعرض للمرة الأولى، ينبض بطاقة الأمل والتجديد ويعتمد فن الراب للاحتفال بذاكرة حية عصية عن النسيان.

مواويل رعاة سمّامة... عزف على أوتار الحلفاء

اهتز ركح المعهد الفرنسي بتونس على إيقاع أصوات رعاة سمامة القوية والجبلية والعذبة في كرنفال الحلفاء، وهم يلبسون أزياء توشحت بالحلفاء هوية وهوى .
إن صوت الراعي في سمّامة لا يُصقل في معاهد الموسيقى بل في مراعي الطفولة، بين صفير الريح وثغاء القطيع. فلمّا علا صوتهم في الكرنفال، علا معه وجع الأرض وفرحها وشجنها وصمودها رغم نزيف الجبال المزروعة بالألغام.
من سمّامة، جاء الموسيقيون - الرعاة حاملين صدى الجبال وآلاتهم التراثية، متلفّعين بأزياء غير اعتيادية... ليكونوا شهودا على العصر وحرّاسا لذاكرة حية تُروى عبر الألحان والخطى التي لا تمل الرحلة مهما طال الطريق.
بدت أصواتهم كأنها مزامير جبلية، لا تعرف الزيف ولا الادّعاء ولا الاستعراض، كان يكفيهم نشوة روحية صادقة يحسونها هم أولا حتى يتخمّر بها من بعدهم الجمهور.
في حضور الفنانين الأوروبيين من إسبانيا وإيطاليا، لم يتوارَ صوت الراعي، بل تماهى مع آلاتهم وموسيقاهم ، وصنع معهم معزوفة موسيقية مُسكرة الإيقاعات والمناخات في حضور نبيل لروح الجبل. في عرض جمع بين أهازيج الرعاة وعزف القصبة وآلات تقليدية من غاليسيا، وإيقاعات من سيسيليا، ونفسا بصريا يقترب من عوالم الرسام فان غوغ... هزم الفن كل الفوارق وسخر من كل الحدود ليثبت أنّه لغة مشتركة بين الإنسان والإنسان .

الحلفاء مادة لجداريات ومنحوتات عملاقة

أمام لوحات الحلفاء وجدارياتها العملاقة ومنحوتاتها وعرائسها... يقف المشاهد مذهولا أمام دهشة مربكة للحواس والإحساس لم يتوقع إمكانية تجسيدها حتى في الخيال ، فكيف وقد جاءت بمنتهى الجمال ! في كرنفال الحلفاء لم يرسم الفنانون الحلفاء بل رسموا بها، وكأنهم أعادوا للحياة لُغتها البدائية. فلم تكن مشهدا بصريا على غاية من الإتقان والبراعة، بل كانت تجربة حسّية غامرة فيها ملمس الأرض، وظلال الزمن، ورائحة الذكريات.... كل قطعة فنية كانت تذكّرنا بأن المادة ليست جمادا خاما بل ذاكرة مشغولة بالصمت، تنتظر من ينصت لها.

في أعمال فنية معاصرة تعتمد نبتة الحلفاء ومواد طبيعية أخرى، كان التوظيف الخلّاق للحياكة التقليدية في شكل دائري وتجريدي متنوع، حيث تتشابك الألوان والألياف النباتية في حركة حلزونية وحيوية توحي بانفجار كوني أو رقصة طبيعية.
تتجاوز الجداريات مجرد زخرفة، لتمثل نسيج ذاكرة حيّة، تصوغ الحلفاء فيه سردية من الضوء والظل، من الهشاشة والقوة. الدوائر المتكررة تحاكي ساعات زمن بلا عقارب، دورات الطبيعة: الشمس، القمر، فصول العمر... أما الألوان، بين البنفسجي الداكن والأخضر النابض، تستدعي تنوع البيئات والطقوس.
لقد تحوّلت الحلفاء إلى صوت، إلى إيقاع بصري، إلى نسيج حيّ يتقاطع فيه الموروث بالخيال، والحرفة بالابتكار.
لقد وثق الفنانون في الحلفاء، ومنحوها دور البطولة في مشهد بصري معاصر، يزاوج بين البساطة والتعقيد، وبين العشوائية الماكرة والتنظيم الخفي. ويد الفنان والإنسان يمكن أن تعطي بسخاء وإبداع حين تتواطأ بلطف مع الطبيعة.

إنّ الحلفاء، بعد كرنفال الحلفاء، لم تعد فقط روح الجبال، ووشم الطبيعة على جسد الزمن بل صار لها أصوتا وألوانا وامتدادا فنّيا... ليتحوّل عالم الحلفاء إلى كرنفال الحياة.

 "حلفوس" ابن الحلفاء.. منحوتة تقف على قدمي الأسطورة

في كرنفال الحلفاء ولأول مرّة، ظهرت شخصية "حلفوس" ابن الحلفاء، المخلوق الأسطوري الذي نحته الفنان يامن العبدلي، نصفه خشب وحديد ونصفه نبات وحلفاء.
في منحوتة "حلفوس" العملاقة، يبدو "ابن الحلفاء" ثابت الجذور كشجرة التين، صامد الوقفة كفلاح عنيد... وهو المشدود بخيوط الحياة، بدا وكأنّه يتوازن بين السقوط والبعث، الاصطناعي والطبيعي، المهمل والمعاد تدويره... اكتفي "حلْفوس" بالحلفاء وروح فنان مبدع ليقف كالأسطورة في كبرياء.

الفنانة الإسبانية "ماريا فالتري"لـ "المغرب":

غنائي مع رعاة سمّامة أنشودة حرية وحياة

عند انفلات روح الفن القادمة من أعالي سمّامة بصوت رُعاتها، وفي قلب ركحٍ حيّ نابض بالصوت والإيقاع في العاصمة، تماهت التجربة الفنية لرعاة سمامة مع وجدان جمهور بدا مأخوذا بسحر اللحظة وحرارتها. في هذا الموعد الجديد مع الإبداع، تميز الحضور الدولي بمشاركة الفنانة الإسبانية "ماريا فالتري" التي منحت العرض بعدا روحانيا بصوتها المترع بالشجن، وبقدميها الحافيتين على الركح، غنّت كما لو أنها تغني لأول مرة… كما لو أنها في بيتها.

بكثير من الصدق تقول ماريا : "عندما أغني في تونس ، أشعر أنني أُعطي من روحي... أشعر بالحرية، وبالاتصال الحقيقي مع الأرض، مع الناس، مع ذاتي."
وقد وصفت مشاركتها ضمن المشروع الفني الذي يشرف عليه عدنان الهلالي بكونه "فاتحة خير وجمال فتحت لها أبواب ثورة ثقافية حقيقية، تتجاوز الحدود والأعمار والأساليب المألوفة." وأضافت: "الرعاة هم عائلة كبيرة بقلب واحد، لا شيء مستحيل حين يكون الحب هو القاسم المشترك."

ماريا وعدت بالعودة مجددا في العام القادم، لتحمل صوتها نحو الجبال، وتمضي في رحلتها مع رعاة سمامة وطبولهم وأنفاسهم وتلك الشعلة التي لا تنطفئ. سافرت ماريا إلى بلدها وهي تردّد "أحب هذه الأرض، وهذه الأرض تحبني."

 

المشاركة في هذا المقال